د. عارف عوض الركابي : الخطباء «المُهَيِّجون» وما سُمِّيَ الربيع العربي!!
لمّا قامت المظاهرات في بعض الدول العربية في الفترة الماضية وظهر ما سُمي «الربيع العربي» كتبتُ وكتب غيري وناقشتُ بهذه الصحيفة بعض الإخوة الكُتّاب في هذه المسألة، وبينتُ أن النصوص الشرعية والمقاصد المرعيّة يجب رعايتها والاحتكام إليها، وأن الخروج على الحكام ضبطته الشريعة الخاتمة بضوابط شرعية راعت مصالح العباد والشعوب والأفراد وحفظ الأنفس وحقن الدماء. وقد استغرب بعض الناس ــ وقتها ــ مما قلناه ونشرناه مدعّماً بالأدلة الشرعية والنصوص النبوية وكلام العلماء الراسخين وإجماع فقهاء الأمة.. ولم نكتفِ بمجرد الإنكار فقط وإنما وضحنا الطرق الشرعية لتغيير حال الشعوب، وأن تغيير الأنظمة فقط ليس هو المخرج الصحيح وإنما بتغيير حال الشعوب في عقائدها وتعبدها ومنهاجها واستقامتها، بالتصفية والتربية، ومما كتبت في ذلك مقالاً بعنوان: «الأنظمة التي يجب على الشعوب الاجتهاد في تغييرها» وأعدت نشره بهذه الصحيفة لأهميته في توضيح أن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والآن وبعد مرور سنوات من تلك الثورات وبعد أن اتضحت بعض ثمار الفوضى التي ركبها كثيرون، تبيّن لبعض الناس أن هذا الطريق ــ أعني طريق الاعتصامات والعصيان والمظاهرات والخروج على الحكام دون تحقق الشروط واستيفائها ــ ليس بطريق صواب ولا صحيح، بل هو طريق هلكة وضياع!! ونحن نعيش في هذه الأيام مأساة سوريا عموماً وحلب خصوصاً وغيرها من مآسٍ، وأدرك من علقوا أحلامهم بالديمقراطية أن الديمقراطية مجرد أداة ليس لها أمان!! فذبحت ونُحِرت الديمقراطية في بعض البلاد في نفس الميدان الذي وُلِدت فيه!! وأريقت دماء مئات الآلاف من المسلمين، وأصبح أعداء المسلمين هم من يحقق أمنياتهم في بعض بلادهم بنتائج الفوضى وفساد الأمن. وكما يردد بعض العلماء المقولة التي نقلت عن الحسن البصري رحمه الله: «إن الفتنة إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء وإذا أدبرت عرفها كل أحد!!» فإن كثيراً من الناس يغلق عليهم في معرفة الصواب وتمييزه عن الخطأ في بداية الأمر، فلا يعلم الحق من الباطل إلا بعد أن ينكشف الأمر كله.. وهذه القضية هي قضية مكشوفة من أول يوم لكل ذي عينين أبصر بهما نور الوحيين: الكتاب والسنة، وعلم مقاصد الشريعة في حفظ الدماء والأنفس والأموال، وعلم نعمة الأمن وضرورتها وأهميتها. ويجب هنا أن يبيّن خطأ وانحراف أولئك الدعاة والخطباء الذين كانوا يهيّجون الناس ويحثونهم على تلك الثورات في عدد من الدول العربية، وببلادنا عددٌ من أولئك الخطباء ومازالت خطبهم محفوظة تشهد عليهم!! وتخبر عن عدم نصحهم لأمتهم، وتغريرهم لكثير من الشباب لسلوك هذه الطرق الرديّة التي حذّر منها خير البرية عليه الصلاة والسلام وتبعه العلماء الراسخون الذين أدركوا المصالح الشرعية المرعية في الأمر بحفظ دماء المسلمين والصبر على جور الأئمة والحكام. قال أولئك الخطباء وقتها: إنه «الربيع العربي» بينما وصفه العلماء الراسخون في العلم والدعاة المهتدون بهدي الكتاب والسنة بالوصف الأليق به فقالوا: إنه «الربيع الغربي» بالغين بدل العين، فقد أفاد من الأحداث التي شهدتها المنطقة أخيراً في بعض بلدانها، أفاد منها الكفار عموماً والغرب خصوصاً، فسهلت لهم الأمور ليحقّقوا بعض أمنياتهم أو الكثير من أمنياتهم التي لم تكن لتتحقّق لهم إلا بمثل هذا السبيل المعوج، الذي دعا إليه بعض الخطباء في بلادنا وقتها وشجّعوا عليه بكلمات مظلمة ألقوها على الناس ونشرها بعضهم في الآفاق عبر قنوات وإذاعات معلومة لا تخفى!! وأنا أكتب هذا المقال راجعت ما كتبته في بداية ظهور تلك الثورات مما ناقشت به بعض الكتاب بهذه الصحيفة، فرأيت أن أقتبس منه العبارات التالية، حيث قلت وقتها: «لقد بيّن العلماء أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا توفرت شروط محددة، وهذه الشروط أفادها العلماء من التوجيهات النبوية الكريمة والتي جاءت لتكفل وتحقق مقاصد شرعية معلومة وبالعمل بها تحقن الدماء المعصومة، وتحفظ الأعراض والمقدسات، ويتجنب كثير من الدمار وذهاب الأنفس المتوقع في الخروج، وهذه من أجل مقاصد هذه الشريعة الإسلامية العظيمة، بل هي من مقاصد جميع الشرائع التي شرعها الله لخلقه. وهذه الشروط هي: أن يُرَى الكفرُ، البواح، الذي فيه من الشرع برهان واضح وحجة، القدرة على تغييره وألا يكون مفسدة تغييره أعظم من مفسدة بقائه، كما ذكر بعضهم في الشروط أن البديل الذي هو أفضل. وهذه الشروط أفادها أهل العلم من «التوجيهات الشرعية» ونشروها في كتبهم ومؤلفاتهم، والذي لا يغفل في هذا الباب «الخطير» أن الذي يقرر تحقق هذه الشروط أو عدم تحققها هم العلماء الربانيون العالمون بشرع الله وليست هي موكولة لـ «عامة الشعب»!! أو «شباب الاعتصامات والمسيرات» كما أن لأهل الحل والعقد مقامهم في ذلك، وفي مقدمة أهل الحل والعقد علماء الشريعة الربانيون العالمون العاملون». «استشهاد الأخ الكاتب بما حدث في تونس ومصر وما نتج عنهما، هو استدلال بــ «التجربة».. ومن البديهي أن «التجارب» هي التي تخضع في الحكم عليها للتوجيهات الشرعية، فالشريعة هي التي تبين موقف المسلم في هذه القضايا وفي غيرها، وليست التوجيهات الشرعية التي تضمنتها النصوص المحكمة والثابتة والواضحة بل «والمجمع عليها وعلى ما دلت عليه» ليست هي التي تخضع للتجارب!! .. هذه قضية بدهية.. وقد كان الأحرى بالأخ الكاتب وهو يتحدث عن هذه القضية ويتناولها بهذا الطرح أن يلقي الضوء على الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الأمر ويبين لماذا لا يُعْمَل بمضمونها؟! ولماذا من يتمسك بها تكون حجته داحضة؟! ولماذا عادت هي من «القديم» الذي ينبغي بل يجب تجاوزه؟! أما المنحى الذي اعتمده الأخ الكاتب وهو «الاستشهاد بالتجارب» فأظن أن أخانا الكاتب سيواجه بسببه بإلزامات لا يستطيع دفعها!! ومن ذلك أن يقال له: وما رأيك في أحداث التاريخ التي كانت فيها مفسدة الخروج أعظم من مفسدة بقاء الحاكم، بل لا مقارنة بينهما؟! فإن في التاريخ أحداث «كثيرة» وهي معروفة ومشهودة في ذلك. قال ابن تيمية: «وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير» وسرد جملة من الأحداث وعدّدها مما يوضح ما قال. وقال ابن القيم: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة ــ وإن ظلموا أو جاروا ــ ما أقاموا الصلاة، سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن»، وقال المعلمي: «وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر» وسرد ـ أيضاً ـ جملة من الأحداث. ومن العجائب التي احترت لها كثيراً واستغرب لها كثيرون وأنا أقرأ في كتابات «كثيرين» وأسمع لأقوالهم في هذه الأيام عما يسمى «الربيع العربي»، أقول: هل من يقتنع بهذه «القناعات» التي تبناها الكاتب في هذا المقال يرى أنها تصلح لأن تطبق في الحكومات التي يكون هذا القائل أو الكاتب عضواً في حزبها الحاكم؟! فمن العجائب أن نفس المفتي بالخروج على الحاكم بهذه البلاد يحرِّمه ويجرِّمه في بلاد أخرى، ومعلوم أن «التلون» هو مقياس وميزان لاتباع الباطل وعدم التجرد للحق، فقد رأينا كثيرين يجيزون الأمر في «تلك البلاد» ويحرمونه في «هذه البلاد» أو «غيرها من البلاد».. في تناقض كبير «مؤسف ومخجل» إذا كانت القضية أخطاء حكام وظلم ووضع ليس هو الأفضل فهذا قاسم مشترك بين جميع الدول، على تفاوت بينها في ذلك «كبير» ولا أعلم أن حاكماً واحداً يعفي نفسه من وجود أخطاء وحصول قصور لديه.. فمن هذا الحاكم الذي يجد إجماعاً من جميع المحكومين في زماننا هذا؟! حتى وإن عدل واجتهد في توفير الراحة لشعبه واستقرارهم في دينهم ودنياهم فسيجد من بين رعيته ومحكوميه من لهم رغبات أخرى تتعارض مع توجهاته «ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض»، بل نحن في زمان اختصام أصحاب الحزب الواحد فضلاً عن غيرهم!! فهل سيكون هذا الشأن الذي أعجب الأخ الكاتب هو الوضع «المستمر» في كل دولة تأتي وتخلف غيرها؟!». أقول: إن مسألة الخروج على الحكام من المسائل التي حسمت في هذه الشريعة وضبطت بضوابط شرعية، والناس بحاجة لأن يذكروا بها بين حين وآخر، والمؤسف أن بعض الدعاة الذين يظهرون على بعض وسائل الإعلام ممن يسيرون في هذه المسألة بمنهج منحرف وبطريقة الخوارج، فوجب التنبيه، ولا أدري ما هو قول أصحاب تلك الخطب التهييجية التي تحث على الخروج على الحكام في ما جرى للمسلمين بليبيا وسوريا واليمن ومصر وغيرها؟!