مؤمن الغالى : صف الجوع الكافر… (1)
أقر وأعترف.. وأبصم بالعشرة .. على شهادة أن مظفر النواب هو أشعر شعراء السياسة في عصرنا هذا عصر الحداثة .. الرجل ولد وفي فمه ملعقة ذهب .. تقلب يافعاً وصغيراً على كفوف الراحة .. متدثراً بفاخر الديباج .. متوسداً مخدات السندس الأخضر.. ورغم ذلك فقد اختار الرجل عندما شب عن الطوق وتشكلت شخصيته.. تلفت حوله والتقط بكاميرات عيونه بؤس الحكام العرب.. وكيف إن أمة كانت تتيه عظمة وتقدل كبرياء فقد تقزمت وكادت أن تدفنها الرمال بفضل أولئك الحكام العرب.
وبدأ الرجل يكتب بأطراف أسنة وخناجر مراثي ومناحات وبكاء على أمة العرب.. لم يترك حاكماً واحداً دون أن تنتاشه سهام كلماته والتي هي أشد جرحاً وإيلاماً من وقع الحسام المهند..
كتب الرجل قصيدة “بحار البحارين” ولعن وسب كل الحكام العرب بلا استثناء كتبهم بالإسم رباعياً أو خماسياً أو واحداً، ولكنه معروف كالشمس في كبد السماء كان الرجل ينشد مرة في عاصمة عربية، وكانت تلك العاصمة تدعي إنها قلعة الصمود والمقاومة والممانعة.. كان رئيسها الدموي حضوراً في تلك الليلة الشعرية التي كان منشدها ونجمها الأوحد حضوراً مهيباً فيها.. كان مظفر على كل العواصم العربية ما ترك صفحة لأي حاكم فيها ما ترك له “صفحة يرقد عليها” حتى نحن في السودان أبان الحقبة المايوية لم ينس الرجل أن يأتي على ذكر رئيس الدولة.. وعندما سب الحكام واحداً.. واحداً.. دوت أكف ذاك الرئيس الذي كان حضوراً في تلك الليلة دوت أكف ذاك الرئيس تصفيقاً.. فقد ظن الرجل الحاكم إنه استثناء هنا وفي سرعة البرق قال “مظفر” مرتجلاًس.. لا .. لا.. أنا لا استثنى أحداً قال تلك الكلمات رغم أنه يعلم ذلك الهول والرعب والأهوال التي سيلاقيها جراء ذلك.. ولكن “ مظفر” لا يأبه بالموت ولا يخشى الردى بل يعلم إنه لن يموت على سريره كما تموت العير.
وغادر” مظفر” تلك العاصمة وبات مشرداً مطلوباً في كل حاضرة عربية.. و”بالمناسبة” فقد زار “مظفر النواب” عاصمة الصمود الحقيقية الخرطوم بعد الانتفاضة المجيدة، وظللنا نتابعه حلاً وترحالاً نسمعه صباحاً ومساءً حتى إرتوينا من نهر عسله المصفى.
نعم أنا مفتون مجنون بأشعار مظفر النواب ولكني أكاد لا أجد في كل أشعار العرب بيتاً من الشعر في روعة ذاك البيت الرهيب.. عندما قال مظفر..
مولاي أنا في صف الجوع الكافر..
ما دام الصف الآخر يسجد من ثقل الأوزار.