منى عبد الفتاح : جيلنا وجيلهم
كلّما ثار غبار معركة اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية، يقف أبناء هذا الجيل بدفوعاتهم بأنّهم إنّما حاكوا واقع المجتمع بإنتاجه وأنّهم لم يكونوا غرباء عنه بتفكيرهم ولا طوباويين في نظرتهم. وكلّما مرّ الزمن يثبت أنّنا لم نتمكن من التكيف على شمولية وعمق ما نريد فعله وما نستطيع كذلك لنصبح بعدها أمة من ضجيج ولغو لم تترك مجالاً لحوار هادئ أو صمت متأمل بل على العكس أصبحنا نتكيف على سماع محترفي التنظير الذين يتقنون براعة التبرير حتى ازدان في أعيننا الخراب، وتكيفنا على ألّا نرفض من أعماقنا ما نسمعه ونراه من تمزق وهوان وتدمير وصراع. وما حالنا اليوم كأمة وكمجتمعات عربية وما آلت إليه، إلّا صورة بليغة عن ذلك، وهو ما يزيد من وتيرة الجدل القائم في كيفية التعبير عنه ليصل إلى من يهتم.
هل ازدادت تسعيرة الكلمة أم نقصت، وهل يؤثر الجو العام على التعاطي مع الحالة بأشكالها فأصبحت الكلمة سلعة تباع وتشترى؟ الواقع أنه اخترعت للساحة الثقافية مثلاً، شروطاً تتناسب مع غريزة هذا العصر الذي سطح كل شيء، فاستبدلت الموهبة والأصالة بالفكرة السهلة والعلاقات الشخصية، وبذلك مسخ الإبداع الذي هو عصارة الفكر وترجمة لأنين الروح.
استباحة الكلمة وتوظيفها الاستهلاكي والمجاني حدا بالبعض لأن يخترعوا أصنافاً أخرى تتوالد وتنمو كالفطر تبتعد كل البعد عن شروط الإبداع وأدواته الصعبة، بل أصبحوا يطمسونها ويستبدلونها بأدواتهم السهلة، لتختصر كل الأزمات في أزمة واحدة صُدعنا بها وتعارف عليها بحالة الأزمة.
والأزمة الكبرى في رؤية كلٍّ منّا للآخر، فالمثقف يرى أنّ المجتمع لا يتقبل الرأي الآخر ولا يحب أن يستمع إلى أي صوت ناقد أو فكرة مخالفة للسائد، والمجتمع من وجهة نظره لا يعرف ذاته كما ينبغي فهو أسير لنظرة واحدة ترى فيه المجتمع الكامل الفاضل وتتعامى هذه النظرة عمداً عما يسود شرائح المجتمع من تقلبات وتغيرات قسرية وطوعية فرضتها موجات تغيير اقتصادية وسياسية كونية. وعلى رأس هؤلاء تقف السلطة بنفوذها ومالها تمارس سلطتها الأبوية باسم المجتمع، الدين، العرف والشعارات الدعائية لفرض وقمع أي محاولة للقفز والبحث عن آفاق أرحب.
هذا الصراع غير المنتهي وإن تنوعت تفاصيله على مرّ الزمن وإن أثار ما أثار من غبار فهو ليس شراً كله لأنّه ربما كان مؤشراً صحياً في بعض حالاته وقادحاً لشرارة الإبداع أحياناً وللفوضى في أحايين كثيرة. ولكن الشر في أنّ الانشغال بالمعركة والجدل يسر الأمر لكل من يطمحون في النجومية، فما كان عليهم سوى أن يستنجدوا بتوهج حناجر السماسرة ليصنعوا من تجاربهم الفقيرة ملحمة إغريقية يطلقونها في سماء الشهرة ليستقبلها البعض بالتهليل والمديح. ويتبرأ البعض الآخر من هذا الإنتاج الذي يرى في ثناياه تشويهاً لصورته الحقيقية ولنقائها وطهارتها، ويبتعد آخرون يرون أنّ هذا الإنتاج ينتهك خصوصية المجتمع بل ربما سخر بالثوابت من أخلاق وأعراف مجتمعية والتي لا تقبل الجدال والمساومة لتتحول التجربة بعد حين إلى فقاعات تكسرها الأمواج المتلاطمة وتبددها على الصخور ويسقط النجم الذي كان واعداً من علِ.
وبالنظر قليلاً إلى الوراء فنجد أنه بالرغم من أن فترة السبعينات والثمانينات الصاخبة من القرن الماضي كانت مرحلة مهمة في بروز مجموعة من المبدعين في مجالات عديدة، إلّا أنّهم ظلوا يدورون في فلك من قبلهم مأخوذين بسحر إبداعهم. كما أنّهم لم تسلط عليهم أقلام النقد ولم يأخذوا نصيبهم بالتعريف الكافي لمنجزهم الإبداعي، أو لم يصمدوا وذلك لظروف كثيرة. أما تجربة التسعينات فكانت تجربة مبدعين مطحونين بصورة غير مفهومة، ولذا فقد كان ظهور ذاك الجيل مؤلماً وقاسياً ارتبط عنده النزوع نحو الإبداع في أي حقل بالبؤس والعدم والتشرد الدائم، فقد كان كتاب ذلك الجيل ينظرون إلى الكون والعالم والأشياء عبر منظار مهشم غائم وضبابي حيث تتشظى الأشياء والمرئيات والقيم، فتبدو الصور هلامية وخادعة.