منى سلمان

الأماكن كلها مشتاقة لك


بينما كنت اسير بغير هدى في طريقي الذي اقطعه اثناء ممارسة رياضة المشي صباحا، منحنية الرأس هائمة بافكاري في ملكوت الله، كدت اصطدم بامرأة تسير في الاتجاه المعاكس .. تجنبت الالتحام بها بمشقة ويبدو انها مثل حالي كانت مستغرقة في افكارها، واصلت سيري بنفس السرعة لتتباطأ خطواتي بعد برهة عندما ملأت خياشيمي رائحة عطرها .. (شح) قلبي وتمدد حتى خلته قد ملأ جنبات صدري، وظللتني سحابة ذكرى حنونة ابتلت منها جوانحي بندى المحنة وذابت دواخلي شجنا، فقد كانت المرأة تضع عطرا قديما فارق شذاه خياشيمي منذ سنوات، كنت اتشممه خلالها عندما يضوع من ارادن أمي او جلباب ابي فقد كانا يتشاركان التطيب به ..
لا ادري أهي رهافة القلب ام متلازمة علامات الكبر، فقد تكرر وقوفي بين يدي ذكريات صادقة وجميلة، كلما فاحت رائحة ارتبطت بماضي الذكريات، فقبلها بايام مررت بصبي كان يحمل خرطوم المياه ليرش ظل الاشجار امام بيته، فتجهجهت بوصلة طريقي حين جسدت رائحة التراب المرشوش لعينيي ذكريات ايام اللعب تحت النيمة مسرح طفولتنا بعد ان يسقيها ابي ويقوم برش الشارع فنجري ونتقافذ تحت حبات الرشاش ..
عندما يشم الإنسان رائحة معينة ترتبط في خاطره بذكريات سعيدة أو مؤلمة، تحفز تلك الرائحة جزء من الدماغ مسؤول عن الذكريات وعن الروائح التي يشمها الإنسان فقد اثبت الباحثين أن هناك ارتباطاً بين الذكريات والروائح، مثلا : إننا عند دخول مكان وشم شيء معين نستحضر ذكريات عاطفية حية أو نابضة حول احد افراد عائلتنا واحبائنا ترجع إلى سنوات أو حتى عقود من الزمن، كما اكتشف علماء الأعصاب السر وراء ظاهرة تذكر أحداث معينة مثل ذكريات الطفولة أو الشباب من روائح خاصة.
فقد وجد العلماء أن للدماغ البشري منطقة محددة تسجل الروائح وتخزنها ، ويعتقد أن هذا الأمر يحدث بسبب وجود جزء منفصل في دماغ الانسان مختص بمعالجة الروائح وتميزها، فالذكريات التي تنشطها الروائح تكون أقوى وأكثر عاطفية وتفصيلاً من الذكريات المصاحبة للحواس الأخرى.
احتلت محفزات الذكرى موقعها في خارطة الغناء العاطفي، فغنى فنان المشوكشين:
صوت السواقي الحاني ذكرّني ماضي بعيد
وعلى الرمال اثار طرتني ليلة سعيد
وخاصمها مصطفى سيد احمد عندما دعى نفسه للانصراف عن ماضي الهوى:
لو صحاك رماد الذكرى لا تهتم .. جرح الماضي بعد الماضي بصبح دم
اما مطرب الاعراب وسيد الطرب فقد خصص لعطر المحبوبة محفلاً في دنيا الذكريات:
الأماكن كلها مشتاقة لك والعيون اللي انرسم فيها خيالك والحنين سرى بروحي وجالك ما هو بس أنا يا حبيبي .. الأماكن كلها مشتاقة لك .. الاماكن اللي مريت انت فيها عايشة بروحي وابيها .. بس لكن ما لقيتك .. جيت قبل العطر يبرد .. قبل حتى يذوب في صمتي الكلام واحتريتك .. كنت اظن الريح جابت عطرك يسلم علي .. كنت أظن الشوق جابك تجلس بـ جنبي شوي .. كنت وكنت أظن وخاب ظني ما بقى بالعمر شي ..
الدوام لله يا ود امي ده حال الدنيا، وعلى كل حال هناك من افتى بـ:
ذكرياتنا مهما كانت برضو ترديدا بيألم ..
فشاعرنا هنا جرب الم الذكرى وعاهد نفسه بأن (أنا بحاول انسى ريدك وانسى ماضي الذكريات)
(أرشيف الكاتبة)