نازك يوسف العاقب : مقام الوالدين
إنّ للوالدين مقاماً وشأناً يعجز الإنسان عن إدراكه، ومهما جهد القلم في إحصاء فضلهما فإنَّه يبقى قاصراً عن الحديث عنهما، وكيف لا يكون ذلك وهما سبب وجوده، وعماد حياته وركن البقاء له، حيث إنهما بذلا كلّ ما أمكنهما لرعاية أبنائهما وتربيتهم، وتحمّلا في سبيل ذلك أشد المتاعب والصعاب.. وهذا البذل لا يمكن لشخص أن يعطيه بالمستوى الذي يعطيه الوالدان.. ولكن نرى بعضاً من الأبناء يتنكرون للجميل لوالديهم خاصة عند الكبر عندما يحتاج لهم الوالدان.. تحضرني في هذه المقام قصة بها من العبر الكثير، يحكى أن هناك عرباً يسكنون الصحراء، ويتحركون طلباً للمرعى لمواشيهم، وكان من بين هؤلاء العرب رجل له أم كبيرة في السن وهو وحيدُها، وهذه الأم تفقد ذاكرتها في أغلب الأوقات نظراً لكبر سنها، وكان هذارها يضايق ولدها لأنه يحط من قدره عند قومه.. وفي أحد الأيام أراد عربُه أن يرحلوا لمكان آخر، فقال لزوجته: إذا شدينا غداً الرحال، أتركي أمي بمكانها واتركي عندها
زاداً وماء، حتى يأتي من يأخذها ويخلصنا منها، أو تموت، فقالت زوجته: أبشر!! سوف أنفذ أوامرك، شد العرب رحالهم، وتركت الزوجة أم زوجها بمكانها كما أراد زوجها، ولكنها فعلت أمراً عجباً.
تركت الزوجة ولدهما معها مع الزاد والماء، «وكان طفلهما في السنة الأولى من عمره، ووالده يحبه حباً عظيماً، ويحب أن يلاعبه ويداعبه وقت استراحته»، سار العرب وفي منتصف النهار نزلوا يرتاحون، فطلب هذا الرجل ابنه كالعادة ليتسلى معه، فقالت زوجته: تركته مع أمك، لا نريده.. قال: وهو يصيح بها ماذا؟ قالت: لأنه سوف يرميك بالصحراء كما رميت أمك.. نزلت هذه الكلمة عليه كالصاعقة، فلم يرد على زوجته بكلمة واحدة، وبسرعة أسرج فرسه، وعاد لمكانهما مسرعاً عساه يدرك ولده وأمه قبل أن تفترسهما السباع.
وصل الرجل إلى المكان وإذا أمه ضامة ولده إلى صدرها، مخرجة رأسه للتنفس، وحولها الذئاب تدور تريد الولد لتأكله، والأم ترميها بالحجارة، وتقول لها: اخزِ هذا ولد فلان، وعندما رأى الرجل ما يجري لأمه مع الذئاب قتل عدداً منها ببندقيته فيما هرب الباقي، حمل أمه وولده بعدما قبل رأس أمه عدة قبلات، وهو يبكي ندماً على فعلته، وعاد بها إلى قومه، فصار من بعدها باراً بأمه، وزادت مكانة الزوجة عنده.