د عبدالرحيم عبدالحليم محمد : نقل عاصمة الحقيبة من أم درمان إلى بار الضريساب
أكتب مقالي هذا عن قرب محتمل لانتقال أغنية الحقيبة من عرشها التاريخي في أم درمان على ضفاف النيل إلى بار الضريساب …بلد أهلي آل الكد.. في تقديري أن هذا الانتقال الكاسح إذا ما قدر له أن يتحقق، فإن تاريخاً مفترضاً ساد دهراً طويلاً للكثير من أغنيات الحقيبة وشعرائها سيتغير، وتتغير بذلك أقوال وبرامج ومواقف يا طالما تخللت أفقنا الغنائي الحقائبي الجميل.. وربما كانت تلك النقلة المنتظرة لهودج الحبيبة من أم درمان إلى بار الضريساب من أعمال مركز مروي سابقاً، إشارة عاجلة للجميع للانكباب على إعادة كتابة تاريخنا بشكل عام والغنائي منه بشكل خاص، إنصافاً للكثيرين ممن ظلوا –ولأسباب عدة-خارج دائرة الضوء، بينما ظل إسهامهم منسوباً للكثيرين والذين هم أيضاً رائعين ورواد، لكن شهرة مثل تلك الأعمال ذهبت اليهم دون استحقاق أو تمحيص تاريخي، وهنا تكمن خطورة الموضوع.. إن انتقال الحقيبة الى بار الضريساب هي رحلة عروس على هودجها التاريخي من أم در الى بار الضريساب.. رواد زفة العرس هم شعراء الحقيبة بكل أشواقهم وآهاتهم وغنائهم لليل والقمر والنجوم والعيون الناعسة والأجفان وبحار الشوق، الى السمحة أم عجن ،وزهرة روما وأغصانها المائلة.. هنالك تزغرد حور الجنان وتقدم رياض الزهور أحلى ما عندها من عناقيد الى حليف الصون، وجوهر صدر المحاسن، وعازة التي طال إليها الفراق.
لكن ربما لا تكون الزفة بتلك السلاسة، إذ ربما غير البحث عن أصول الأغاني ومصادرها طبيعة الأداءات ومناخات الترنم بالكثير من الأغنيات -حسب رغبة ملاكها الجدد- الذين هم على الضفة الأخرى للعالم مع أن حقوق الملكية الفكرية تمتد إليهم وهم في مراقدهم النائية، بحيث لا يعكر صفو ابداعهم مدع أو منتهك.
«2»
أتأمل في محاسن غناء الحقيبة و(أتوسع في فنوني) عند الحديث عنها وقد كتبت مراراً في الصحف منادياً بمشروع اسمه نادي الحقيبة القومي من أهدافه التوفر على دراسة أنماط وأشكال أغنيات الحقيبة وأشعارها، لكوني أراها مرآة صادقة لوطننا من عدة جوانب أرى لها جذوراً في اللغة والدين والثقافة وصور البلاغة التي تشرب من بحر اللغة والدين، الأمر الذي يؤهل تلك الأغاني كإبداعات متميزة لم تجد ضوءاً كاشفاً يتيح لها ما تستحقه من تفوق لا سيما عربياً في وقت ظهرت فيه الكثير من الكتابات التي يعوزها العمق وتتسم بالدونية، عند مقارنة فنوننا بآخرين، ونحن عندنا ما يجعلهم يقفون متأملين بدهشة وغيرة وإعجاب.. ثم أن من أهداف ذلك المشروع استلهام لمسات التجديد والتجويد التي قام بها الكثير من المحدثين لتشحيم فاصل أغنيات الحقيبة بمنتجات عصرنا الحالي الموسيقية، وضروب التطريب التي تمكن كثيراً من الشباب إضفائها على أغنية الحقيبة فظلت ذات نفس ملهم ومتجدد وهنا في تقديري تكمن عظمتها.
«3»
أسأل نفسي بعمق وصدق لماذا تستعمرني أغنيات الحقيبة بهذه الطريقة الموحية العميقة خارجة من مخابئها من بين دموع العاشقين وخدود الحرائر وليالي الوطن الجميلة فتعضف بي وتعربد في بدني؟ إنها تجعل فرحي غامراً ، وإحساسي سيالاً، وقناعاتي بها قوية ومتجددة بأنها خير أغنية سعت بها قريحة في وجداننا الثقافي والفني ..أحاول إيجاد إجابة عن سر هذا الوله باحثاً عن برد اليقين فيفنى فيه مجهودي -كما يقول الشاعر التيجاتي يوسف بشير- إنني أرى هذه الأغنيات الجميلة كجزر حبيبة مضى بها الموج بعيداً عن عالم البحر، فظلت في تناثرها البعيد تحن الى جسم الساحل القديم تحركها حركة الموج الذاهب بحنين غامر الى البحر، وتجعلها محجاً لأسراب الطيور العابرة، ورحلات البحارة، وباعثي عجائب البحار وربما يكون هذا العرض الديالكتيكي للحقيبة والماضي هو مصدر الشاعر عبيد عبد الرحمن بالماضي حين يغني له الكاشف:
حليل زمن الصبا الماضي
وحليل زمن الحبيب راضي.
ثمة شيء ما ظل يقربني منذ الصغر لعوالم الحقيبة الجميلة ربما لحبي لها منذ الصغر كمستمع عبر راديوهات عتيقة من قرانا البعيدة، مذعناً لأفكار في تجاويف ذاكرتي أريدها أن تشكل مدخلاً ألج منه إلى عوالم باحث الحقيقة والحقيبة ومؤرخها وعاشقها الأستاذ عوض بابكر.. في الصغر جلست ذات يوم في خلوة شيخنا عبد الحليم والدي ومعه ابن خاله ابراهيم أحمد عثمان الكد، الملقب بالدينكاوي وزميله في التدريس بمدارس المنطقة وصفيه… بدا لأن الوالد يومها كان يستفسر ابن خاله ممازحاً عن أغنية فبدا لي أن )أبوى ابراهيم) كعادتنا عند مخاطبة أهل الوالد، كان يستعيد شجناً قديماً بتجل وهيام لا زلت أتذكر ملامحه:
في القطينة تعرفت بي وفي المرابيع زاد العلي!
«4»
من يومها وعلاقة أبوي ابراهيم بالحقيبة تطرق على (رق( قلبي ووجداني لما أعرفه عن إسهام أسرة الكد ممثلة في الأخوين حسن وحسين في الحركة الوطنية، فلم لا يكون اسهام شقيقهما ابراهيم في تلك الفترة كان فنياً ورفد فيه مكتبة الحقيبة بالكثير من الأغنيات الجميلة التي نراها اليوم منسوبة لشعراء كبار من شعراء تلك الحقبة.. لقد دار هذا التساؤل بيني وبين بعض من عشاق البحث التاريخي الفني وهواته، مما جعلني في تلك الليلة أهاتف أخي عبد الرحمن ابراهيم الملقب بابي) شنب (ود أبوى ابراهيم أحمد عثمان الكد، وطفنا في عالم ابوي ابراهيم، حيث أكد لي ابو شنب أن لديه وبخط والده الكثير من أغنيات ذلك الزمن ألفها في تلك الفترة عندما كان في ابروف مثل) يا عيني وين تلقي المنام(، (سيدة وجمالاً فريد)،) جناين الشاطي)، (طال وجدي بيك وبحق نبيك) وكثير من الأغاني التي تزدان بها أرفف الحقيبة وتسجيلاتها.. لقد علمت من أب شنب أن الأستاذ عوض بابكر علم ببعض تفاصيل هذا الأمر، وأنه يسعى للبحث والتقصي لتحديد مدى إسهام ابراهيم أحمد عثمان الكد بالكثير من أشعار أغنيات الحقيبة. أب شنب من جهته يتطلع إلى لقاء الأستاذ عوض بابكر ليقدم له دفوعاته الفنية والتاريخية حول هذا الموضوع التوثيقي المهم والخطير.. موضحاً أن والده ولأسباب خاصة لم يرغب في نشر تلك الأغنيات باسمه.
قد يكون عشاق الحقيبة وأنا منهم موعودين بنقل خلافة أغنية الحقيبة من مملكتها الأم درمانية التاريخية إلى بار الضريساب، ليس بعيداً عن جبل الصلاح كلنكانكول ومرقد حد الزين بنية شيخنا اسماعين في أم درق التي تغنى لها الراحل أحمد فرح :
يا حليلك يا بلدنا فيكي ربونا اتولدنا