عبد الله الشيخ : كسلا.. سوق الحيارى..!
كسلا جميلة.. جميلة مثل زهرة، «بالرغم من الأوبئة وفساد الحكام»، وبرغم مظاهر الفقر التي تبدو على رفاق الدرب، من بروليتاريا الهامش، الذين تتناقص سعادتهم، ويتيبّس خبزهم، وتُهضم حقوقهم، كلما شقهت مباني الأدعياء.. جبال التاكا وخرير القاش وجبنة الطين، ونَغم الساقيات، الذي حرّك أشجان توفيق صالح جبريل في ماضي الزمان..والفراش الذي شدا له زيدان.. و«السنين يا حليلنا عدّو..؟».. نسيم كسلا يأتي من أنفاس الغيم، ومن رطوبة البحر البعيد القريب، وأصابع توتيل كأنها أثداء الدنيا، أو كما وصفها «ود المتعارض» بأنها تشير إلى «وزراء» مملكة في العُلالي.. على تلك الجبال ندوباً من مطر الأيام، أو تلك من فرقعة رصاص الطليان خلال الحرب.. ندوباً كأنها جفاف دمع على خد كسير.. وهل يكْسِرُ الخاطر غير الهوى والهبباي وزيفة المطر الشحيح.. واحتمالات اللحظة التي في رحم الغيب؟!.. هذه المدينة أبعد ما تكون عن رهق الحياة في عاصمة الأكاذيب.. البيوت هنا تختفي وتغيب بين الأشجار والخيران.. في هذه المدينة أكثر من قِبلة للصلاة، ولن تسمع في مساجدها قارئاً يُلحِن في آيات الله، رغم ما ترى من سيادة العُجمة على ألسنة الوجود.. لكنّهم كما البشر على كل حال، يخطئون في كل شيء، بيد أن لهم نصيبهم الوافر من هديل أهل البصائر.. الجبل الذي هو ذاكرة المدينة الصخرية، يكاد يضلل الخطى فيرمي بك في غيابة الماضي والحاضر.. تنظر إلى حجارته الملساء ولا تُمسِك بخيوط المكان، فتشتاق إلى وادٍ آخر، غيرَ ذي زرع.. في سوق الحيارى رأيت أحفاد الجهادية، يبيعون بضاعة راجت قديماً في طريق القوافل.. طريق التوابل الذي كان يمتد بين أكسوم وبحر العرب عابراً إلى الشام والبصرة من جهة طور سيناء.. رأيتهم يبيعون السكسك والمستكة والحبّهان.. وبعض المستحيل من أظلاف البقر… «الكوارع»، وبخور السّهارى، وما يشتهيه الحَذِرُ في مأمنه من مدوزنات الليل.. لكنهم، كما أرى.. يتخصصون في الأقاشيه.. للأقاشيه في هذا المكان رائحة مثل «الشِّكِت»، مثل زُبدة الخندريس.. كل ذلك وما يحتويه من معنىً وملمس، يخلطونه بـ «القَبانيت»، و بأسرار الهوسا، وأقانيم خلود الروح، وتنجيم الطهاطيل، وعجاج المنادل.. شارع المليون بليد، الذي يتحدث عنه زوار كسلا، ليس فيه من بقايا الماضي، غير هذا الصديري وخنجر الجّنبية ،«تِفّة الشعر» الهدندوية، وسيوف مُحنّطة، انشغل عنها أصحابها بالهواتف.. في هذا العهد كان المويايل، هو سر الله الخطير الذي دانت له الأسماع طوعاً وكرهاً.. للقهوة حالها وعبقها الفريد في جبال التاكا.. غشيت مجلساً لها أمام بيت بجاوي شفيف، هو علي محمد طاهر.. هذا المجلس عمره أكثر من ثلاثين عاماً.. إن كان للشرق أمير بعد بامكار.. هذا هو الأمير الذي «أعطى بلا أمل، وأحب بلا ملل، وحسا كما يحسو الطائر»..! أمام بيته يتسامر أصفياء المدينة كل ليلة.. يروحون ويجيئون، وهو في انتظارهم يبدِّل الكراسي، ويحتضن جبنة الطين وجنزبيلها.. لا لشيء إلا لأنه خُلق من طينة الكرم النبيل.. شباباً وكهولاً جمعتهم المحبة وفصائد العرق.. ونكهة الذكريات.. موظفين وتنفيذيين وعمّالاً ومغتربين ورجالات أعمال، أناس من مختلف المشارب يضحكون فيستغفرون الله، ويتطلعون بصبر إلى ذاك القمر الذي يتخفّى وراء السحاب.. كانت كسلا لحناً في البريّة مثل أزيز الطبل.. من هنا انطلق قطار الشرق لإسناد ثورة أكتوبر.. ومن هنا نهض الجهادية السود في ثورة باكرة ضد الحكم التركي.. وفي هذه الصحراء كسر «الفزي وزي» مربع الجيش البريطاني.. هنا يصدق حجاب الستر فيصبح أكثر إيلاماً.. هنا مرقد السيد الحسن.. ولكن تلك قصة أخرى.