في ليلة “الشامبيونز” ثمة بطل واحد اسمه الشعب السوداني ينتزع متعته من براثن الوجع المقيم.. ملوك على طريقتهم
على سبورة سوداء تفتح على الشارع الرئيس أعدت لهذا الأمر خصيصاً يعلن صاحب نادي المشاهدة عن حفلة الليلة يستخدم الطباشير الأبيض ويكتب منذ الصباح الباكر (التذكرة 5 جنيهات دوري أبطال أوروبا أتلتيكو مدريد ضد ريال مدريد الساعة التاسعة و45 دقيقة. كان صباح خرطوم السبت ينبئ عن ليلها الطويل.. الجنيهات الخمسة التي كان يعلن عنها صاحب النادي الذي أطلق عليه اسم نادي (فالينسيا) تيمناً بالفريق الإسباني العريق كانت هي قيمة الدخول لمشاهدة نهائي أبطال أوروبا بين الريال وأتلتيكو مدريد.
في ليلة (الشامبيونز) بميلان الإيطالية كان السودانيون أبطالا على طريقتهم الخاصة بطولة كان يكفيهم فيها انتزاع لحظة للاستمتاع بعيدا عن الرهق اليوماتي.. يتجاوزون فيها معادلة الصراع اليومي بينهم ولقمة العيش ينسون أنهم مهزومون في معركة الكهرباء والموية معركتهم حتى في الحصول على حق مشاهدة المباراة دون أن يدفعوا قيمتها وفقاً لاقتصاد السوق الحر وهو ما دفع بالبعض لإن يهتف (عاشت إثيوبيا ونهضت بسدها) فقط لأن إحدى القنوات الإثيوبية أتاحت لهم مشاهدة البث الحي للمباراة رغما عن أنف قنوات التشفير القطرية قبل أن ينتهي الحلم في بداياته وتعود القناة الإثيوبية لتعرض كيف يحارب الشعب هناك الفقر المدقع.. كانت ثمة قصة أخرى تخبرهم فيها كيف يمكن للأوطان أن تنتقل من حال إلى حال فقط بالإرادة ولا شيء سواها.
هلا مدريد
“أضربي ليهو هسة لو رد ليك أوعدك حيتزوجك” تكتمل الجملة بعبارة (هلا مدريد) لتؤكد صاحبتها على فرضية واحدة أن ليلة السبت كانت فقط ليلة الاستمتاع بنهائي أوروبا ولا شيء يشغل الفؤاد غير الأحمر والابيض.. لم يكن ثمة فرق بين الشوارع الخرطومية وشوارع روما سوى ذلك المتعلق بلغة التواصل المشترك.. على غير عادتها كانت الخرطوم تفتح صدرها للسهر وهي المدينة التي تنام باكراً.. تشكو قلة الأمكنة التي يمكنها أن تنتظر فيها الصباح تمنح ضجيجها صمت القبور وتحوله إلى داخل أندية المشاهدة أو إلى الصالونات التي تتسع لأصحابها وأصحابهم وجيرانهم وزملاء العمل.. هنا الخرطوم تتسع أكثر من مدريد لقيم لا يمكن أن تغادر.. أهلها يجلسون أمام الشاشات ويغنون لحلم فريقهم الذي سينتصر في نهاية المطاف ويفوز بالكأس صاحب الأذنين. عموماً في الوقت من الساعة العاشرة إلا ربعا وحتي الثانية عشرة وعشرين دقيقة لم يكن ثمة حكاية غير حكاية المباراة التي تجري في (سان سيرو).
الزحمة فيها الرحمة
ينفي صاحب نادي المشاهدة عن نفسه صفة (الاستغلال) ويقول بموضوعية رفع قيمة التذاكر من ثلاثة جنيهات إلى خمس جنيهات يقول إن الأمر له علاقة بأن اليوم هو يوم الحصاد وأن زيادة قيمة الدخول هدفها الأساسي هو توفير جو ملائم للمتعة ويكمل: “ياخ هرمنا في انتظار هذه اللحظة”.. مؤكد أن زيادة أسعار الدخول لم تؤثر على الذين يقصدون النادي من أجل المشاهدة وأن الهدف الأساسي منها كان تقليل عدد الحضور لكنه لم يحدث.. لم تكن الزحمة فقط في ذلك النادي وإنما تجاوزته لأندية أخرى.. مؤكد أن اختلاف كرة القدم في أوروبا عن نظيرتها في أفريقيا يفرز اختلافاً أيضاً في من يشاهدونها داخل الخرطوم، فثمة خرطومان مختلفتان ولكن أعين المتعة واحدة بين من يحضرونها في المطاعم الراقية في شارع المطار وأولئك الذين (يتفرشخون) على برش في أحد اندية المشاهدة في أمبدة كلهم يغنون مع الدون كريستيانو ويتفاعلون مع تحركات سيميوني.
الريال سيد أوروبا
انتهت الجولة النهائية بأن وضع الريال النجمة رقم (11) في مسيرته الأوروبية.. فوز الريال بالبطولة صنع أفراح فريق وأحزان آخر خصوصاً من مناصري برشلونة في الأراضي السودانية.. لكن لم تكن سيادة الريال لتمنع حالة المحبة الخاصة بين السودانيين ومدرب أتلتيكو مدريد سيميوني فثمة طفل صغير يتوشح بفانيلة (رونالدو) عقب الهدف الحاسم يذرف دمعة فرحه بالبطولة ويتبعها بعبارة “ما بتستاهل” ويكمل رجل في آخر الصف: “عذراً ابن الارجنتين ما كل الملوك بتلوك وان كرة القدم لو كانت تمتلك ذرة عدالة لوشحت سواد بدلة هذا الأنيق بالذهب فهو صنع ما يعطيه هذا الحق ولكن المجنونة كعادتها قالت له لا لكنها حتماً ستنصاع له في يوم ما فلكل مجتهد نصيب”.
ملوك على طريقتهم
على طريقة سيف الدسوقي: “الناس هنا أروع ما فيهم بساطتهم ومعدنهم أغلى من الدهب” كان الريال في ليلة روما ملكاً على أوروبا لكن بقي اليقين بأن لا ملوك في هذه الارض غير شعبها الطيب في شوارع البلد التي يسكنها الضجيج. ثمة يقين بأن لأبطال فقط هم أولئك الفقراء الذين يقتلعون فرحتهم من براثن الوجع المقيم. كانت الخرطوم مدريدية، هنا فقط يمكن للفقراء أن يدعموا الملوك، كيف لا وهم أحفاد تهراقا يمكن الثلاثاء جنيهات أن تصبح خمسة جنيهات سيدفعونها عن يد وهم ضاحكون.. كانت الضحكة منقوصة عند ذلك الشاب وهو يقف قبالة محل الصعوط ليكتشف أن السرطان ليس هو ذلك الذي يصيب اللثة عقب سفة مدنكلة فيمكن أن يأتيك السرطان عبر زيادة أسعار (التمباك) نفسه يضع كيسه في جيبه بعد أن يدفع الثمن الجديد ويدخل إلى النادي وحين تعلن صافرة نهاية المباراة يبدأ هو معركته الصباحية في مساسكة لقمة العيش وسكر رمضان دون أن ينسى أن يقول: “شكراً سيموني وزيدان”.
الخرطوم ـ الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي