رأي ومقالات

الترابي.. حياة الأفكار (11)

يثور هذاه الأيام جدل كثيف حول علاقة الدين بالسياسة . وتروج عبارة فى الأعلام العربى الرسمى فى الفضاءات وفى الأثير هى عبارة الأسلام السياسى.ولاشك أن العبارة نفسها شاهدة على رؤية تعضية الدين أى جعله عضين (الذين جعلوا القرآن عضين) والمعنى جعلوه أجزاء مقطعة متفرقة مجزأة وكأن بعضها لا ينتسب إالى البعض الآخر. وكأن شعائر الدين من صلاة وزكاة وحج لا صلة لها بحياة الناس فى علاقات كسبهم ومعاشهم وعلاقات انتظامهم وأحتكامهم لسلطان وتقاضيهم أمام من يفصل فى نزاعاتهم ومظالمهم. وكأنه لا حاجة لاخلاق الدين فى تعاملات الناس وتعاقداتهم ومكاسبهم . وليس ثمة مفهوم للدين أبعد من الصحة والصواب فى فهم الإسلام مثل هذا المفهوم بل إن غلطه غلط فى فهم ظاهرة التدين كافة. فمسرح الدين الذى فيه يظهر ويؤثر تأثيره البالغ هو ضمير الانسان الذى هومعياره وميزانه للخير وللشر وللحسن وللقبح . وكيف يمكن أن يُتصور أن يغيب الضمير عن التجارة أو السياسة وعلاقات الناس والجماعات ببعضها البعض. أم هل يُتصور وجود الضمير الانسانى فى غياب تفاعل الفرد مع الأغيار فى الساحات كافة ،إنما الضمير هو ميزان العلاقة بين الإنسان وسواه فإذا غابت تلك العلاقة عن حضور الضمير وأثره تحول الانسان من كائن أخلاقى الى وحش بلا مخالب فى المجتمع والسياسة والتجارة وسائر معتركات الحياة .
الترابى والسياسة التوحيدية :
لن يقبل د. الترابى التعامل مع مصطلح الإسلام السياسى إلا لنقده وأزدرائه . فالعبارة المروجة إنما قُصد بها أن ذلك الجزء المتصل بالتعاليم والأحكام المنظمة للكدح والشأن العام لاحاجة له اليوم فى حياتنا المعاصرة التى أنتجت تجارب ونظما أحكم وأعدل وأفعل . ولئن كان القليل ممن يروج لمفهوم الإسلام السياسى يجهر بهذا المعنى بهذه الصراحة فإن مقتضى القول منهم ليس يفارق هذا المعنى . ولقد تحدثنا من قبل أن المفهوم المركزى لدى دكتور الترابى هو مفهوم وحدة الحياة الذى يقتضى وحدة الدين ، فما الدين إلا صنو للحياة . فما جاء الدين إلا للإرتقاء بحياة الإنسان فى وجدانه وإحساسه بالحياة وفى علاقته بإعمار الحياة من حوله وإنمائها . يقول الترابى (لابد للدين علماً وعملاً أن يتحد به الباطن والظاهر لتنشط الوجدانيات العامرة وتصدق التعبيرات الكثيفة وتتماثل تزكياً وخشوعا وتقوى فى السياسة والإمارة مثل الصلاة والإمامة فيها ) فالوجدان لدى الترابى صنو للسلطان .الوجدان هو الضمير الأخلاقى الذى يضبط سلطان الجوارح وسطوتها. فاذا أنفلتت الجوارح تبطش بغير كابح من سلطان العقل والشعور المتحدين فى وجدان الانسان وفى ضميره ، حينئذ يظهر الفساد فى سيرورة الحياة وتنحدر الى سافلين .والناس جميعا يدركون أن سلطان القانون يظل عاجزا فاشلا إن لم يعززه ضمير إجتماعى يرفض ويدين ويعزل كل من يخرج على العرف المعروف والقانون المسنون . وإفتراق الظاهر عن الباطن يحيل الحياة الى مظاهرة نفاق كبرى، فما النفاق إلا إظهار خلاف ما تبطن . والنفاق هو أدنى وأسفل ما يمكن أن ينحدر إليه الإنسان ، لأنه يحيل الحياة كلها إلى أكذوبة كبرى .ولعل أكبر آفات السياسة المعاصرة هى ظاهرة النفاق وأفتراق الأقوال والأفعال عن ماتكنه الطوية والضمير المستتر. ونفاق السياسة ثمرة مرة لإنفصال السياسة عن الضمير اليقظ الواعز الذى لا يحييه شىء مثل الدين والفطرة السوية النقية . يقول دكتور الترابى (وأشد ساحات الحياة عرضة لمرض الفصام بين الباطن والظاهر هى السياسة التى تباعد فيها كل نظر النصارى وغالب واقع المسلمين المشهود الحاضر والغيب الآجل وتعازل الدنيوى والدينى ) فالدعوة للفصل بين الدين والسياسة دعوة شركية . والدعوة إلى إزالة الفصام النكد بين الوجدان والسلطان وبين الضمير والقوة وبين الحكم والسياسة هى دعوة التوحيد الحق . ومثلما أن منهج الترابى التوحيدى متجانف عن النخبة متوجه لجميع أهل الإيمان كما هو خطاب القرآن ، فإن دعوته لتوحيد فهوم السياسة وممارساتها مع مقتضى الإيمان متوجهة لعامة المسلمين (وأم القضايا اليوم هى قيام الدين السياسى أو بقاؤه كله محجوراً مقبورا. والجماهير المؤمنة هم حملة تلك الأمانة الثقيلة لإقامة أصل الحكم الاسلامى فى وجه الإبتلاءات والتحديات المثقل بها هذا العصر. والمعول والواجب الأول إنماهو على الجماهير أن تأخذ الدين بقوة وتتحمل فى سبيله ضغوط المدافعة للباطل فى حال الحرية والسلام أو دفوع المجاهدة الثورية فى حال الصدام للجبروت أو العدوان ولا قوام بعدئذ لتحقيق الدين وتطبيقه واقعا ًكاملاً إلا وقفا على جهد كل الجماهير ناشطة فى أداء التكاليف ) فالجماهير لايمكن لها أن تكل أمر إستقامة الإيمان ووحدة الحياة الإيمانية لثلة مختارة أو نخبة منتقاة . فالدين حق لكل إنسان أن يهتدى به وواجب عليه أن يستقيم على مقتضاه . فالسياسة التوحيدية هى سياسة تجعل الأمر أمر جميع أهل الإيمان لا أمر خاصة مخصوصة منهم . ذلك أن الدين لا يكتمل توحيده إلا بتوحيد الجماعة المؤمنة العابدة لأن توحيد الله هو مطابقة مشيئة الإنسان لمراد الله سبحانه الذى هو مراد الخير فى كل مكان وفى كل وقت ولا يتيسر ذلك الا للجماعة العابدة متوحدة وموحدة مشيئتها العامة مع مراد الله سبحانه وتعالى الذى هو مثال الحق والخير والجمال الذى عليه تُسدد الأبصار والعزائم وتتقارب المساعى والخطى . والترابى يدعو بذلك الى ممارسة جماهيرية للسياسة ،ليس من أجل تحقيق تكاليف النهضة بها فحسب بل لأن حفظ الدين فى الشأن العام تنعكس بركته على الشأن الخاص , وانما يتعزز الإيمان الباطن بالعمل الظاهر.ونجاح الإنسان فى الإستقامة فى الشأن العام بما يعترية من تجادل وتدافع وصراع يقوى قدرته على الاستقامة فى الباطن بترك باطن الأثم كما ترك ظاهره.
السياسة هى ألاصلاح:
الإشراك فى السياسة بإختلاف مناهجها وتعارض مقاصدها هو مايجعل معناها يضطرب فى فهوم الناس .بيد ان السياسة التوحيدية هى السياسة التى توحد الفرد مع الجماعة وتوحد مناهج الجماعة ومقاصدها بما يتطابق مع المشيئة الإلهية .فالأصل فى ملة الاسلام أن الحياة لله كلها توحيداً(قل إن صلاتى وممحياى ومماتى لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) فإذا أسلم المرء أمره لله ضمن سعادة الدنيا والآخرة.فالله حكم عدل بين نفس الإنسان الطائعة والشاطنة ، وبحكمه تتوازن شعاب النفس فتصبح نفساً مطمئنة. وهو حكم عدل بين الانسان ومجتمعه فلا يظلم ولا يُظلم فيذهب عنه بذلك الخوف ويحظى بالأمن والسلامة. والله حكم عدل بين الإنسان والطبيعة المسخرة للإنسان تهبه خيراتها ويأخذ عنها بالمعروف فتتكاثر عطاياها وتستدام. والسياسة التى تستلهم من مراد الله المعبر عنه قرآنا وسنة سياسة بها يكون صلاح كل شىء ، لأن الله أعلم بما فطر عليه كل شىء وبما يصلحه ، وإن لانسان ليضل فيحب ما هو شر له ويكره ما هو خير له . لذلك فأول وجوه السياسة هى سياسة المرء لنفسه ,وأول وجوه الاصلاح هو إصلاح المرء لنفسه . فإذا صلح شأن النفس صلح شأن إجتماع الأنفس إذ تجتمع . ولذلك فالنظر للسياسة بعيدا عن التربية خطأ فادح شائع. فلن يصلح شأن الإجتماع البشرى مالم يستحيا الضمير بالمجاهدة الذاتية وبالتربية الإجتماعية وبالتوجيه الرشيد . فالنظر للجماعة وكأنها كائن قائم بذاته نظر غير سديد. فالجماعة بناء يكون متينا مرصوص البنيان إذا قويت لبناته وتماسكت وأتصلت بعضها ببعض بقوة وتآلف. فهذه الجمعية المتينة هى أساس المجتمع السياسى الفاعل المتوصل النماء . وإذا نحجت التنمية الإجتماعية نجحت السياسية وإذا نجحت السياسية نجحت الإقتصادية ، ثم تقوى قوة كل صعيد الصعيد الآخر ، وهكذا يجب أن يتوحد الأمر . فيتوحد الأفراد بقوة فى الجماعة وتتوحد فئات الجماعة وشعابها بقوة مع بعضها البعض. فالتوحيد هو مايركز عليه الدكنور الترابى دائما توحيد الجماعة العابدة بتوحيد قبلتها ومصادر معرفتها وهداها إلى ربها الواحد الأحد ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون ) ولئن كانت السياسة مرجعها إلى الدين الذى أساسه الحرية بغير إكراه فإن السياسة لا تصلح إلا كما صلح الدين حرية بغير إكراه . فمجتمع السياسة ينبغى أن يكون مجتمع أحرار (كل فرد حر بالرأى وبالتصرف ولكنهم طوعا يتسالمون فيتآخون ويتوالون فى وجه الفتن والعدوان ) فمجتمعهم مجتمع متمدين قائم على التسالم والترابط والتعاقد ، لا تفرقه الإثنيات ولا القبليات ولا المذاهب ولا الملل والنحل ، بل يترابط بالثقافة الواحدة والوطنية الجامعة وإخاء الإنسان لإخيه الإنسان . ولئن كان التنوير العلمى قد قاد الغرب الأوربى الى مفهوم المجتمع المتعاقد على القانون القائم على سيادة التشريع القانونى ، فإن الشريعة الإسلامية هى أساس التعاقد المدنى فى مجتمعات المسلمين . ولذلك لا تكون السياسة ذات سيادة إلا إذا وافقت الشريعة . ذلك أن الشريعة هى ما يوحد الجماعة المؤمنة مع أنفسها ومع الأغيار ممن هم سواها. وهى شريعة عدل وأنصاف لا تميل ولاتجور ولاتحابى المؤمن بسبب إيمانه ولا تظلم الكافر بسبب كفره ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والعدل والقسط هو أساس الإجتماع البشرى وأساس السياسة وأساس القانون. والمجتمع المدنى السياسى مجتمع متسالم داخل فى السلم كافة ، منصاع طوعا للقانون متوال على إقراره طوعا لا كرها ، والالتزام به طوعا لا كرها إلا من أبى . ومن أبى لا يواجه القانون فحسب بل يواجه السخط وربما العزل الإجتماعى . فالسياسة قسمة بالعدل والإنصاف تعطى كل ذى حق حقه. وهى قاض بالعدل يقضى بين الغرماء والخصماء بالعدل. وهى قائم بالعدل لا يكلف الناس إلا بما يصلحهم فى العاجل أو الآجل أو فى الراهن أو المآل . وأهل العلم بالقرآن وُفقوا للقول بالقاعدة الشرعية أن (التصرف بالسياسة منوط بالمصلحة ). يصف الدكتور الترابى مجتمع المؤمنين الحق فيقول (إقامة مجتمع سياسى إسلامى يقتضى أن يستشعر كل فرد أنه مكلف حقاً وواجباً أن يجتهد رأيه لا بهواه بل بهدى الشرع لا فى شأنه الخاص فحسب بل فى الشأن العام ، وأن يجهد ويضرب فى الأرض على صراط مستقيم لا للدنيا فحسب بل للتزود للآخرة ، صابراً فى الضراء شاكراً فى السراء ،لا مدبرا لحاجته وحاله فحسب بل للحاجة العامة ، فهو ومن مثله مجتمع لايعرفون حكر الرأى ولا المال للذات وإعتزال الآخرين تنطعاً وإستبدادا بالرأى أو ترفاً وشحاً بالمال، يتواصلون بالأراء تناصحاً وشورى حتى يسوسوا أمرهم العام إجماعاً نحو ماهو أحكم وأرشد بميزان الشرع الواحد ، ويتبادلون المكاسب تشاركاً وتعاوضاً وصدقة وزكاة حتى يديروا ثروتهم العامة تعاوناً وتكافلاً نحو ما هو أنمى وأبرك فى الدنيا والآخرة ) ذلكم هو مجتمع المؤمنين السياسى كما يراه نظرا ويتمناه الدكتور الترابى وهو ليس بالمدينة الفاضلة النظرية الفلسفية الطوباوية وإنما هو مجتمع الهدى الإلهى والشريعة الربانية . يتشكل فى الواقع بقدر ماتمثل المؤمنون بهدى كتابهم ونهج شرعهم وأستمعوا إلى نداء فطرهم الإنسانية السوية. وهو مجتمع سياسى للمجتمعات فيه كسوب متفاوتة فكيفما تريد تكون ، ولها به نهضة وشهادة وظهور بين الأمم .
الحرية أساس السياسة:
وحرية الإختيار هى أساس السياسة . وأول إختيار هو إختيار منهج الحكم ومادة التعاقد المدنى إجماعا بين أهل الوطن ،أو برأى السواد الأعظم منهم ،أو بمبدأ الأغلبية الذى عليه قوام الديموقراطية الحديثة . والترابى يرد على من يرفضون تحكيم الشريعة بحجة أن ذلك يضير بحقوق الأقلية التى لاتؤمن أو لاتريد حكماً للشرع بالقول(اذا حظر الدين فى مجادلات السياسة وتنافسات ولاية الأمرودوافع شؤون السلطان العادلة وروادع جورها لأنه خلافى بين مؤمن وكافر فإن ما يترتب أن يحظر كل مذهب وضعى آخر يختلف عليه الناس بين موافق ومعارض ينبغى أن ينفى كل مذهب فكر ليبرالياً كان أو رأسمالياً او إشتراكياً او قومياً أو مذهباً لحفظ البيئة أو الثقافة أو السكينة فى المجتمع أو يجنح للطرافة والطلاقة فى السلوك والمتاع . فتنفى كل إرادات الناس الحرة التى تتحول بالمجادلة والمعايشات العفو. وإذا كان السواد الأعظم مسلماً كيف يُحال بينه وبين التعبير عن إرادته فى الحكم والسياسة إن إختار الشرع ويترك لهم إذا كانوا على رأى أو مذهب آخر ، إن الدين ليس وراثة كالذكورة والأنوثة ولون البشرة والنسب مما إذا مُيز به يُظلم من لم يحظ منه قدراً ، بل هو خيار بين كفر وإيمان وأصله وهديه الحرية فى الإعتقاد ليسود فى السلطان إختيار أغلب ) فأساس السياسة لدى الترابى حرية الاختيار وافضل ما يكون الأمر أن يجتمع الرأى أو يتوافق السواد الأعظم على إختيارواحد .وهو كما لايؤمن بالإكراه فى العقيدة لا يؤمن بالإكراه فى السياسة فلو إختار غالب المجتمع نهجا غير الشريعة ، فإن واجب الوقت على المؤمنين ليس إكراه الناس على إختيار الشرع ولكن واجب الوقت تكثيف الدعوة وتعريف الناس بأصول دينهم ، وشرح معنى الشريعة فى حياة المجتمع السياسى .واجب الوقت هو المثابرة والمصابرة على الدعوة حتى يختار الناس الدين فى السياسة طوعاً لا كرها.
والحرية من بعد ذلك شرط لازم لكل معاقدات السياسة وممارساتها . ومناهضة الاستبداد بالمستطاع واجب شرعى يُراعى فيه كل فقه القيام بالواجبات من إدراك للحال والوقائع ، ونظر فى العواقب والمآلات . والاصلاح سبيل للتغيير والجهاد بالكلمة سبيل آخر ، والجهاد بالقتال له فقه وشروط إن كان قتال بغاة مستبدين أو قتال غزاة محتلين وللحديث حول ذلك مقام غير هذا المقام
نواصل

د. أمين حسن عمر