عمر العمر : كسر احتكار الإعلام غاية ووسيلة
> على نقيض المأمول لم تزدهر حريات الإعلام العربي عقب ما قيل «الربيع العربي». المشهد أصبح أكثر شحناً بمفردات الاستقطاب السياسي الحاد. رغم تعدد أقنية الإعلام والمؤسسات، لم تتحرر الصحافة من قبضة الأنظمة. غالبية الصحف أصبحت مملوكة على نحو مباشر للدولة أو مستتبعة بواسطة رجال أعمال يديرون أموالهم تحت مظلة الدولة. هكذا أضحت الصحافة ضمن ثمرات زواج السلطة والثروة. > في ظل هذا الواقع، أمسى معظم الصحافيين نشطاء سياسيين. الساحة مفروشة بالجمر، مزروعة بالحواجز أو ملغومة بالإملاءات والإغراءات. كل صحافي مهني منحاز بالضرورة إذ لا مكان للانحياز. في غياب الحريات مع تعاظم الاستقطاب هبط العرض. الأداء يتجه نحو الإسفاف أحياناً. البيئة لم تعد تعين على الإبداع. التنفس المهني يمارس بشق الأنفس. > رياح «الربيع العربي» لم تهب على الخرطوم، غير أن السودان ليس بعيداًعن محيطه. هو جزء من عالم يزداد انقسامات وتمزقاً لجهة الفوضى. كما في الوطن العربي لا تلبي الصحافة طموح الشعب في ظل استتباعها الدولة. ربما يكون حال الصحافة السودانية الراهن يعبر إحدى أكثر فتراتها تردياً إن لم يكن أغلبها في إطلاق. > الحكم مرده الهيمنة الحكومية. الاحتكارأفضى إلى تهالك البنية التحتية للصناعة. شكل أغبر، مضمون رث إلا ما ندر. البيئة في مجملها طاردة. الناشرون متـذمرون تحت أعباء مكلفة. الصحافيون على مسارب الشظف والهجرة. المهارات المعاصرة في فنون المهنة غائبة. الصورة، سيدة الثقافة البصرية، في أدنى مواصفاتها المعيارية حين تظهر. هناك فجوة تكنولوجية. > للصحافة دورلا يمكن حجبه أو تغييبه. هي سلطة حاضرة دوماً في الإبلاغ والتنوير. هي السلطة الرابعة ذات الباع الأطول في الكشف والمحاسبة. مكانة الصحافة معيار حيوي لقياس حال المجتمع والدولة. الصحافة مرآة المجتمع. هي حاملة فكر النظام وروحه. > وضع الصحافة السودانية يثير قلق العاملين فيها والمعنيين بأمرها. الشعب لا يقبل عليها حين يفعل بنهم أو شغف. أجهزة الدولة مكابرة إذ تدعي الرضا إزاء الصحافة. محاولة إعادة النظر في قانون الصحافة يعكس قدراً من ذلك القلق. تعديل القانون خطوة إيجابية إن أفلح المكلفون الذهاب في الطريق القويم . الأزمة أكبر وأعمق. نعم هذه حالة لا يمكن عزلها عن محيطها العام كما لا يمكن تفكيكها عن أزمة الوطن والمجتمع المركبة. انتظار الذي لم يأت يعمق الأزمة. الدور الطليعي يحتم التحرك في إطار الممكن. > دون التوغل في جدل عقيم من الممكن الاتفاق على زحام في المشهد الصحفي بحمولة من الإصدارات تفوق إمكانات البنى التحتية، قدرات الكوادر المهنية. إنتاج يومي فوق احتمال القراء. هو كذلك استنساخ مكرور القسمات والمضمون. المشهد برمته مصنوع لم تفرزه خيارات أو احتياجات. مثل الوضع الراهن لا يتيح فرضية «دع مليون زهرة تتفتح» كما يزعم البعض. الركض اليومي لا يستهدف التميز أو الرضاء المهني. الطاقات الفنية المحدودة مبعثرة بفعل الضغوط الحياتية وتعدد الجبهات. > ربما أجدى للجميع مبادرة أهل المهنة لجهة تصحيح الوضع. هم لا يتحملون كل أوزار التدني. للدولة الباع الأطول. واجب القيادات الصحفية يفرض مثل هذه المحاولة. الأمانة تقتضي القول بعض الرؤى الضيقة تعرقل مثل هذا التحرك. ربما تشكل فكرة إعادة الهيكلة مخرجاً. السؤال عندئذ البناء على أي منهج ووفق أي رؤى تنجز المهمة؟ ما لم تؤسس العملية وفق منظور كسر الاحتكار على قاعدة تنوع المنابر في ظل إطلاق الحريات لنتقدم خطوة. هذه مهمة تتطلب بالضرورة المشاركة الجماعية وصولاً إلى قناعات بحيث لا تأتي جبراً من علٍ. > الدولة نفسها تعاني أعباءً ثقالاً لن تكون قادرة على حملها بعد حين. هي المسؤولة عن تخليق مشهد الزحام. صناعة الرأي العام لا يتأتى بالكثرة المكرورة. التراخيص الممنوحة لم تكن وفق رؤى. الشخصي غلب السياسي والفكري. التجربة أبانت إخفاق سياسة المنح والمنع في الاستمال والإسكات. الترغيب كما الترهيب لا يبني مؤسسات أو يصنع رأياً عاماً. اعتقال صحافي واحد أو تعطيل صحيفة عن الصدور قبلاً أو بعداً يشكل جرحاً مؤلماً في صورة الدولة على الصعيد الخارجي إن لم يرتد سلباً في الداخل. > المناخ البانورامي العالمي يوضح تعالي توجهات إنهاء الاحتكار مقابل توسيع التعددية في الأفق الإعلامي. التعدد لا يعني الكثرة بل فتح المدى أمام التيارات السياسية، الفكرية والاجتماعية للتعبير عن ذاتها وتطلعاتها. التعددية الشكلية الراهنة لا تؤمن التنوع أو تعكس واقعاً ديمقراطياً. > حينما نتحدث عن الحريات السياسية لا بد بالضرورة من ضمان حرية الصحافة، إذ هي أبرز منابر العمل السياسي والثقافي. في غياب منابر صحفية أمام المعارضة تكفل لها ممارسة النقد وترويج أفكارها وبرامجها لا يمكن الحديث الأمين عن وجود الحريات أو الكلام عن نظام ديمقراطي. كثرة الطبعات الصحفية اليومية ليست غير استكمال المشهد الديمقراطي المفترض بديكور زائف. في ظل التجربة المعيشة يسود « دعهم يقولوا ما يشاءون ونحن نفعل ما نريد» > على الدولة والصحافة الحكومية والمستتبعة مواجهة تحديات ملحة عالقة في الأفق. الأزمة الاقتصادية الضاغطة تجفف فرص مواصلة الإنفاق على كل الإصدارات اليومية المستتبعة. مظلة الإعلان تنحسر مع إنكماش مجالات الاستثمار. الإعلانات الحكومية تمثل ذراع الدولة للهيمنة على الصحافة. في ظل الأزمة لن تتمكن الدولة من مواصلة الإغداق السخي المشروط. الأغلب التوجه نحو التخلص من العبء الثقيل مقابل ممارسة مزيد من الضغوط. التداعيات في مجملها تضاعف السلبيات على المشهد. ربما هذا أدعى للمبادرة بدلاً من انتظار حلول علوية أو ترقب مجهول.