“سفة تماك” تضع “طفل ربك” أمام مصير “أم شوائل” قسوة الآباء مع الأطفال.. من الحب ما قتل
التقييد بالسلاسل.. الضرب بعنف.. الإساءات اللفظية.. سلوكيات مدمرة
عثمان العاقب المحامي: قوانين الطفل جيدة والمطلوب الحزم في تنفيذها
الناشطة فاطمة سالم: الفهم وسط الآباء متدنٍ..وقصور واضح في القانون السوداني
وجد الصغير منذر البالغ من العمر أربعة عشر عاما نفسه فجأة مسجونا ومقيدا بالسلاسل، ليس في سجن يتبع للدولة ولكن داخل منزل أسرته بمدينة ربك، والفاعل لم يكن لصا قد فعلها ليلا حتى يتمكن من سرقة ما بالمنزل، ولكن والده هو الذي أوثق رباط ابنه ووضعه خلف أبواب غرفة حتى لا يتمكن من الخروج منها، والصغير منذر الذي اهتزت مدينة ربك لحادثته لم يرتكب جرما عظيما، وكل ما فعله أنه تصرف بشقاوة وحب استطلاع يميزه عن أقرانه، فقد حاول أن يجرب مفعول “التمباك”، وبدلا عن توجيهه بالإضرار والمحاذير الدينية كان عقابه “الحبس الانفرادي” والتقييد بسلاسل ضخمة، وحالة الطفل منذر ظلت تتكرر في كثير في مختلف أنحاء البلاد من قبل آباء يتعسفون في التعامل مع أبنائهم فهل هذا هو الأسلوب الأمثل للتربية؟
الهروب من السجن
نعود إلى الطفل منذر الذي سرد لـ(الصيحة) حكايته، مشيرا إلى أنه وبعد عودته إلى المنزل ومعرفة والده بأنه حاول تجريب تعاطي التمباك، تعرض لتعنيف منه، ولم يتوقع منذر أن يعاقبه والده بأكثر من جلده حتى لا يكرر فعلته، ولكن يقول ابن الأربعة عشر ربيعا إن والده أقدم على خطوة لم يضعها في حسبانه، وذلك حينما أحضر “جنزيرا وطبلة” وأحكم وثاق رجليه بهما وسط صرخاته وتوسله بألا يفعل، ولكن الأب الغاضب حينها لم يرق قلبه لنداءات الصغير الذي أكد عدم تكرار فعلته، ولكن مضى الوالد في مخططه وأحكم وثاق فلذة كبده غير عابئ بصرخاته ودموعه وآهاته، ويقول منذر والدموع تبلل خديه إنه كان يعاني كثيرا من “الجنزير والطبلة” وذلك لثقلهما على قدميه الصغيرتين، ويكشف عن أنه وحينما يريد النوم يواجه معاناة حقيقية لأنه لا يستطيع تحريك رجليه بحرية كما أنه وحينما يود قضاء حاجته فإن هذا يعني له العذاب في أوضح حالاته وذلك لصعوبة الحركة والجلوس، وقال إنه كثيرا ما توسل إلى والده ليفك وثاقه ولكنه ظل يكرر رفضه، ويلفت إلى أنه لم ينعم بالنوم لأيام وليال ظل خلالها مقيدا ومكبلا، وأضاف: بعد أن ضقت ذرعا بما كنت اتعرض له قررت الهرب من المنزل وطلبت ذات يوم من أخي الصغير أن يحضر لي ماء شرب ومن شقيقتي أن تجهز لي ملابس بدعوى أنني اريد الاستحمام وعندما ذهبا وجدت فأسا تركه والده بالغرفة فاستخدمه في قطع الجنزير، وهربت من المنزل في منتصف نهار قائظ بمدينة ربك، وتوجهت رغم الآلام التي خلفها الوثاق المحكم في أرجلي إلى منزل جدتي والدة أمي التي كانت منفصلة عن والدي، ولم استطع طوال المشوار لبس الحذاء بسبب الجروح التي خلفها الجنزير الذي كان ملتفا حول رجلي الاثنين رغم أنني فصلته عبر الفأس ولكن لأنه كان محكما في كل رجل بطبلة فلم استطع التخلص منه حتى وصلت منزل جدتي بعد معاناة وضيق وحاول جدي وخالي فتح الطبلتين ولكن فشلا ولم يحاولا ضربهما حتى لا اتعرض للأذى ولم يجدا غير الاستنجاد بالشرطة، ويشير منذر إلى أنه لا يريد العودة إلى منزل والده ويبرر رفضه هذا والدموع تنهمر من مقلتيه بأنه يخشى أن يعاقبه مرة أخرى، وقال إن وكيل النيابة بربك قرر إعادته لوالده وهو يرفض هذا الحكم.
تصفية حسابات
وتسرد عائشة المشهورة بأم توسل لـ(الصيحة) قصة أخرى تعرض فيها أبناؤها للتعذيب على يد والدهم، وتشير إلى أنها اختلفت مع زوجها ونتيجة لذلك انفصلا واحتفظ الأب بالأبناء، وقالت إن والدهم وبدلا عن الإحسان إليهم والرأفة بهم لتعويضهم حنان أمهم الغائبة، كان يعتدي عليهم بالضرب المبرح، وتقول إن المعاملة السئية من جانبه لم تتوقف رغم شكوى الصغار، وتضيف: في أحد الأيام تفاجأنا بابني مغشيا عليه بالمستشفى وحينما هرعنا إليه عرفنا أن السبب يعود إلى اعتداء والده عليه بآلة حادة فمكث في العناية المكثفة لمدة ثلاثة أيام، وكانت النتيجة أن أصيب بارتجاج في المخ، وهذا جعل منه شخصا معاقا وعاجزا عن الحركة، وللأسف فإن القانون لم يطال والده.
قصة وعبرة
وبالتأكيد الأمثلة كثيرة ولا حصر لها، ولكن ما إن تذكر قضية العنف ضد الأبناء إلا واستدعى العقل الجمعي قصة الطفلة المعجزة أم شوائل التي تزوجت لاحقا وغادرت الدنيا العام الماضي، وحدثت القصة الغربية قبل سنوات في إحدى القرى النائية في السودان وتدعى قرية سودري وبطلة القصة طفلة بريئة كانت تبلغ من العمر 14 عاما أو اقل، كانت تعمل في رعي الغنم كسائر أهل القرية وفي ذلك اليوم المشئوم أضاعت الفتاة المسكينة 4 أغنام من غنم أبيها فاستشاط الأب من الغضب وخير الصبية المسكينة أن يلحقها بأمها المتوفاة أي أن يقتلها هو، أو أن يرمي بها في بئر خارج القرية فاختارت الصبية المقهورة الخيار الثاني وهو البئر بدلا عن الموت ساعتها وقام الأب برمي ابنته ولم يلق بالا بدموعها وتوسلاتها له، وسقطت الفتاة المغلوبة على أمرها في البئر البالغ عمقها 18 رجلا والرجل 170 سم، ومكثت المسكينة في البئر المهجورة والمليئة بالخفافيش والثعابين والعقارب قرابة ال40 يوما دون أن تموت أو يخرجها أحد، إلى أن مرَّ أحد الرعاة بعد تلك المدة كلها بالبئر وسمع بكاء أم شوائل، فخاف وصرخ هل أنت أنس أم جان؟ لأنهم يعتقدون بأن البئر مسكونة، فاخبرته أنها أم شوائل ابنة فلان، فعرف أباها، وطفق جاريا إلى القرية وأحضر الرجال لإنقاذها ونزل أحدهم بعد ربطه إلى البئر وصف ما رأى في البئر وجد ثعبانا ضخما ينظر إليه وكمية كبيرة من الخفافيش وجد الطفلة المسكينة محاطة بالشوك، ونجح في إخراجها وصفت حالة البنت عند إخراجها بأنها عبارة عن هيكل عظمي، وجدوها عارية تماما بعد أن أكل النمل الأبيض ملابسها، كما وجدوا عقربين في شعرها أيضا، ولكن البنت استطاعت الكلام وأكلت بعض السمن، وأغرب ما في القصة هو أنها قالت كل يوم كان يأتيها رجل يلبس جلباب أبيض ويسقيها اللبن بالملح، وإنه لم يتحدث معها إطلاقا إلا قبل يوم من إخراجها حين أخبرها أنه آخر يوم يأتي لها لأنها سوف تخرج قريبا.
الوسائط الإعلامية تنتقد
الكثير من القصص المأساوية مثل التي تعرض لها طفل مدينة ربك منذر والراحلة أم شوائل تناولتها وسائل الإعلام والوسائط الإلكترونية بالتعليق والتحليل، حيث ظلت تقابل باستنكار كبير، ويصف البعض الآباء الذين يعاقبون أبناءهم بقسوة وعنف بالوحشية وعدم الرحمة واللجوء إلى استعمال أساليب لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة وإنها تأتي بعيدا تماما عن الأساليب الحضارية التي استشرت وباتت ثقافة يستلح بها الآباء الأكثر وعيا، وعلق مازن على هذا الأمر بأنه دائما ما يأتي نتيجة لعدم استقرار نفسي لدى الآباء الذين قال إنهم يلجأون إلى تعذيب أبنائهم للتخفيف عن ما يعتمل في دواخلهم من مشاعر متناقضة وخطيرة، فيما أشارت الطالبة الجامعية لينا إلى أن الكثير من الآباء ونتيجة للظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد يعمدون على تنفيس غلهم وغبنهم في أبنائهم عبر ضربهم بوحشية، فيما يدفع آباء آخرون الثمن غاليا جراء الأوضاع الاقتصادية التي تحتم عليهم العمل طوال ساعات اليوم وبالتالي لا يجدون الوقت الذي يكفل لهم تربية ورعاية أبنائهم ليتفاجأوا بارتكاب بعضهم مخالفات وأخطاء فتأتي ردة الفعل عنيفة من جانب الآباء، أما الإعلامي جمال الدين عمر، فقد أكد أن اعتداء الأب على ابنه بوحشية ودون رحمة ينتج من اضطراب نفسي، ويعتقد أن القانون يغفل العنف المنزلي والأسري، ويرى أن تعامل الدول الغربية مع مثل هذه القضية أفضل بكثير، وذلك لأن الأب الذي يتجاوز حدود التربية ويعتدي على ابنه بوحشية يتعرض لسيف القانون دون مجاملة، ويرى أن السلطة الأبوية المطلقة هي من مشاكل الأطفال في السودان والذين دائما يكونوا ضحايا لتصرفات الآباء أو أنهم يدفعون الثمن عند انفصال الزوجين.
العلم يوضح
وكشفت دراسة علمية عن بعض الأسباب التي تؤدي إلى معاملة الآباء لأبنائهم بطريقة غير سوية منها شعور أحد الوالدين، أو كليهما باستئثار الطفل باهتمام الآخر مما قد يؤدي إلى انعكاس هذا الشعور على طريقة معاملة الوالدين للطفل التي يمكن أن تتسم بالصرامة، أو الرفض الشديد للطفل، أو إهمال تغذيته، أو مراعاة صحته، أو تعنيفه وتهديده، أو حرمانه من حقه في التقدير والإحساس بأنه غير مرغوب فيه، كما أوضحت الدراسة أن الأبناء الذين يعاملهم آباءهم بطريقة تربوية سليمة يشعرون بالحرية النسبية وبالدفء في الأسرة، وبالتالي فهم يشعرون بالسعادة والطمأنينة.
قصور في التنفيذ
الناشط القانوني في حماية الطفل عثمان العاقب قال لـ(الصيحة) إن قانون حماية الطفل قانون عادل ولا توجد به تقاطعات مع القوانين التشريعية ولكن يوجد قصور في التنفيذ وإن أخطر مادة في القانون الجنائي هي المادة 45 وهي إسقاط التهم الجنائية في سن دون 18 ولكن إذا ظهرت علامات البلوغ على الطفل في سن15 يصبح مسؤولا جنائيا، أما في حالة الطفل منذر فقد طبق وكيل النيابة المادة (84) وهي الإهمال وتوقيع والد الطفل على تعهد، وقد أكد العاقب بأن الحالة تقع تحت مظلة الأذى الجسيم و139 أو المادة 142 الإرهاب والألم، وأضاف: كما يمنع قانون الطفل الحبس غير المشروع وكثير من هذه الحوادث نتيجة انفصال الوالدين ويصبح الأمر تصفية حساب بين الاثنين يذهب ضحيتها الأبناء، توجد المادة (4) في قانون الطفل إذا طبقت سوف ينعم أبناء السودان بوضع أفضل ويخلق جيلا متحملا للمسؤولية وكثير من البنود بقانون الطفل لا وجود لها على أرض الواقع.
قدح في مجلس الطفولة
وفي ذات الإطار تحدثت دكتورة أميمة محمد مسؤولة ملف القوانين والتشريعات بالمجلس القومي لحماية الطفولة التي أكدت أن المجلس يعالج قضايا الأطفال من خلال المحاكم المختصة ورفضت الحديث عن عنف الآباء ضد الأبناء خاصة القضايا، من ناحيتها تشير الناشطة في حقوق المرأة والطفل فاطمة سالم إلى أن العنف ضد الأطفال محرم عالميا، وتوضح وجود مشكلة في تنفيذ القوانين بالسودان، وتقر بتدني الفهم وسط الآباء بالإضافة إلى وجود تقاطعات بين القوانين، وتؤكد بأن القانون السوداني يحتوي على قصور واضح في هذا الصدد.
الدين ووضوح الرؤى
وعن رأي الدين يشير الداعية الإسلامي الدكتور عبد الرحمن الدويش، إلى أن الإسلام نهى عن عنف الوالدين ضد الأبناء، لقوله تعالى: “يوصيكم الله في أولادكم”، وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى عادة وأد البنات في الجاهلية حيث كانت العادة معروفة وأن الآباء يلجأون إلى ذلك خوفاً من عارٍ قد يجلبنه البنات عندما يكبرن، أو مع الأولاد خوفاً من الإعالة والنفقة ويعد هذا النوع من الممارسات من أشد أنواع العنف ضد الأطفال وهم في أعمار مبكرة، وقد ألغى الإسلام هذه العادة بل إنه جرمها لأنها قتل نفس بغير حق، وقد ورد في القرآن ما نصه «وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قتلت» . وقد صنف الفقهاء جملة من حقوق الأبناء على الآباء منذ الولادة استنتاجاً من الأحاديث في هذا الشأن ومن حقوق الأبناء على الآباء، العقيقة، اختيار المرضعة، النفقة، التربية والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، بالإضافة إلى المساواة بين الأولاد، وغرس القيم في دواخلهم والإحسان إليهم قولا وفعلا.
تحقيق: بهجة معلا
صحيفة الصيحة