الصادق الرزيقي

بقع من الضوء!

«بقعة ضوء أولى » > في مقر السكن ببناية أنيقة فخمة محكمة التأمين تطل على حديقة عريقة (maurice barres Neuilly surseine 74boulevard ) كان مطر خفيف يتساقط في ليل باريس، وموعد الافطار قد أزف، عندما التقينا بواحدة من شمعات الصحافة السودانية الغائبة في غربتها الهادئة، لم تكن الاستاذة الكبيرة والصحافية المخضرمة فاطمة سعد الدين بحاجة للتعريف عن نفسها، فقد سبقتها سيرتها التي ربما لم تغب عن كثير من الصحفيين السودانيين، فقد كانت من الاسماء الصحفية اللامعة في فترة الستينيات من القرن الماضي، ومن مؤسسات جمعية الصحافة النسائية, وظلت تكتب الى وقت قريب قبل أن يلفها صمت طويل . امرأة تجاوزت منتصف العقد السادس من العمر، لا تزال تنبض بحيوية دافقة وذاكرة متقدة حية نابضة بالذكريات، عاشت أيام وأمجاد الصحافة في السودان والعالم أجمع في فترة باكرة من عمرها ومعها عدد من الصحفيات السودانيات، طفن العالم من شرقه الى غربه وشماله وجنوبه، جلست إلينا بسمتها الهادئ وظرفها وطلاوة حديثها وضحكتها الصافية تحكي لنا، وطيب مواكب من الذكريات تتراءى أمامها وأعينها عبر النافذة المفتوحة على سماء باريس الممطرة وصيحات تأتي من بعيد لمشجعي مباريات الدوري الأوروبي الذي تستضيفه فرنسا، تتمازج مع وقع حبات المطر على الزجاج والشارع القريب من النافذة .. حكت لنا رحلة عدد من الصحفيات السودانيات من أترابها وأقرانها، إلى الصين عبر رحلة طويلة من الخرطوم الى بيروت, مرورا بدلهي وهونغ كونغ ثم بالقطار الى العاصمة الصينية بكين لحضور احتفالات الصين الشعبية بعيدها الوطني وانتصار الثورة، قابلن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وكان يومها ملء سمع وبصر العالم، من ضمن وفود من دول عديدة في احتفال صاخب ضخم، قابلهن الزعيم ماو وتحدث اليهن، وطلب منهن التجول في الصين للتعرف عليها ونقل مشاهداتهن للشعب السوداني، وعدن الى الخرطوم وكتبن عن الزيارة عشرات المقالات والتقارير.. > اتصلت عليهن السفارة البريطانية.. اجتمع معهن السفير الانجليزي وأبلغهن دعوة من الحكومة البريطانية لزيارة لندن، وبالفعل ذهبن الى لندن.. (فاطمة سعد، زينب الفاتح البدوي، أمال سراج وثريا أمبابي) وقابلن الملكة اليزابيث الثانية في قصر بيكهام وتناولن معها فنجان الشاي بالطريقة الانجليزية العريقة، وزرن مجلس العموم وزارة الخارجية، ثم حكت لنا الاساذة فاطمة زيارتها ضمن وفد صحفي نسائي الى كوريا الشمالية ولقائهن مع الزعيم الكوري الشمالي (كيم ايل سونغ) وكيف أنشدن له نشيدا باللغة العربية بعاميتنا فيما يشبه غناء البنات (كيم ايل سونغ اتعلى تاني ما بتدلى).. > وفي زيارة أخرى للعاصمة الروسية موسكو أيام الاتحاد السوفيتي العظيم، شاركن في احتفالات واجتماعات ومؤتمرات، وكن يحملن مصاحف قمن بإهدائها لمسلمات ومسلمين روس كانوا ضمن المرافقين لهن ولم يكن مسموحا بذلك من قبل السلطات السوفيتية . ولم تتوقف حكاياتها وذكرياتها في الشأن الصحفي السوداني وتاريخ الصحافة في تلك الفترة مرورا بسبعينيات القرن الماضي، حتى لحظة توقفها عن الكتابة، لفت نظرنا ثقافتها الواسعة وإلمامها بقضايا الفكر والثقافة والسياسة، هي نموذج باهر للصحفية والمرأة السودانية التي ثابرت واجتهدت في فترات مبكرة جدا عندما كانت كثير من الدول العربية والافريقية لا تعرف شيئا عن الصحافة والصحافة النسائية.. وهي نموذج يستحق التكريم، وبقي أن نقول إنها زوجة المرحوم الفريق شرطة محمد طه إسماعيل ووالدة زوجة السفير نصر الدين والي بوزارة الخارجية وسفيرنا في باريس . «بقعة ضوء ثانية» > على أحد أرصفة محطة القطارات الرئيسية بمدينة فرانكفورت الالمانية، وزحام العابرين والمسافرين القادمين والمغادرين، وجلبة لا حد لها، التقيت به (الدكتور إسماعيل مسبل حسين) الجيولوجي السوداني المقيم بألمانيا في مدينة (ماينز) التي نال من جامعتها الدكتوراه وبقي يدرس فيها عالما لأكثر من أربعة وثلاثين سنة، وجدته في انتظاري بشعره الغزيز وبساطة البادية التي لم تفارقه, فهو من بادية الرحل العريقات بشمال دارفور، عالم لا يشق له غبار، يعمل في صمت وبعيدا عن الاضواء وبهرج الحياة، حتى تميزه الاكاديمي الرفيع وتكالب الشركات الالمانية والاوروربية الاخرى العاملة في مجالات تخصصه لم يعرها انتباها، انقطع للعلم والمعرفة والبحث والدراسة والمعامل الجيولوجية ونسي ما يدور حوله من تنافس في الدنيا وتسابق لنعمائها . عالم سوداني من مستوى رفيع، لا يعرف عنه أحد شيئا سوى زملائه الذين ذهب الكثير منهم للتقاعد، يحدثك عن العالم والكرة الأرضية وتركيبتها الجيولوجية وما يدور ويحدث في باطن الارض حديثا مدهشا، يعرف الكثير من أسرار هذا العلم الخطير، معادنه، نفائسه، مخاطره وحروبه، لكنه يتغافل عن هذا كله، ويتحدث فقط عن ثروة السودان الضخمة من المياه الجوفية أولا ثم المعادن.. لا أدري لماذا يركز على المياه الجوفية ونحن نملك الأنهار والأمطار ومصادر المياه؟, لكنه يحذر ويحذر ويحذر..!! > طلبته مؤسسة أمريكية رفيعة ليكون ضمن فريق عمل لاختبار وقراءة معلومات لنوع جديد من (الربوتات) أرسل مع مسبار الى كوكب المريخ، ولما أرسل أوراقه الى الشركة التي كلفتها وكالة الفضاء الامريكية (ناسا) أعادوا له أوراقه بعد ستة أشهر واعتذروا له رغم معرفتهم بكفاءته وعلمه.. واكتشف بعد ذلك أن اسمه العربي ودينه هما السبب في استبعاده حتى لا يشارك مسلم في سبق علمي خطير. هذا المخزن المتحرك من المعلومات والابحاث والدراسات والاسرار، منزو في ركن قصي في مدينة، يردد أشعار البوادي وأمثال دارفور وقصصها وحكاياتها وتاريخها.. يضحك ملء قلبه.. ويعيش .!