عبد الله الشيخ : بوّابة الدخول إلى قلوب العامّة
تناولنا في ما سبق، تفاعل مشايخ التصوف في الفضاء السياسي، قرباً وبعداً من الحكام، واستعرضنا أسماء بعض من كانوا أعلى مقاماً من الحكام، وبعض من كانوا يزاولون شؤون الحكم.. في هذه الزاوية نتحدث عن طائفة من الأولياء كانت تمارس وظيفة التوسط بين الحكام والرعية، وتقوم بدور الشفاعة والحجز.. هذا الوظيفة، التي تتلخص في إبرام الصلح بين المتخاصمين، كان يضطلع بها أولياء ذوو حُظوة وقبول (عند الخاص والعام) ..والعبارة بين القوسين كثيراً ممّا يكررها يراع ود ضيف الله في طبقاته.. وظيفة الشفيع أو الحاجز، هي أن يقوم الشيخ كـ (واسطة خير(، يصلح ويزيل الضرر عن كاهل الضعيف غالباً، أو يوفِّق بين المتخاصمين، على غرار ما يفعل الأجاويد في مجتمع السودان ..يقوم الولي الصوفي بهذه المهمة وهو المؤهل للنجاح فيها، بحكم ثقله الاجتماعي والروحي، ومن يرفض شفاعته، شخصاً كان أم حاكماً، يُشيَّع باللّعنات، واللّعنات أدناها، أن يتألب المزاج العام عليه بالإنعزال عنه، فيصبح منبوذاً في مجتمع يقوم أمره على نوازع الالتحام والتداخل.. وللولي الصوفي قدراته في فض المنازعات الفردية والقبلية، بحكم وهجه القدسي، إذ هو ومسيده، مركز الحراك الاجتماعي، ويؤدي دوره في فض النزاعات، وفق معايير الدين والعرف، التي تحقق المصلحة المشتركة وتحقق الرضا للطرفين.. وقد يطلب الولي أن يتفضل طرف لآخر، كحل يرفع من قدر المتفضل.. والشفاعة والحجز يرفعان قدر الولي بين الناس، وقد تشاع شفاعته ككرامة، والسلطان من جانبه، يكون أكثر حرصاً على قبول شفاعة الولي، لأن رضاءه هو بوّابة الدخول إلى قلوب العامّة.. كان الشيخ إدريس ود الارباب هو أشهر أولياء الشفاعة والحجز في السلطنة الزرقاء، وقد اختار لنفسه هذا الدور، لأسباب دينية واجتماعية وسياسية، كانت تصرفه عن المشاركة المباشرة في الحكم …هنا ينبغي أن نذكِّر، بأن الشيخ ادريس، قد اختار هذه الوظيفة بعد أن عرض عليه أمراء الفونج نصف المملكة كهدية، لكنّه رفض تلك العطية، مشيراً إلى أن أرض السلطنة مغصوبة من النوبة.. في سبيل الوفاء بوظيفته هذه، كان الشيخ إدريس كثير التسفار إلى سنار ، فقد دخلها- كما دوَّن ود ضيف الله- أكثر من سبعين مرة متشفعاً في أمور الناس.. أنظر الطبقات، ص 60.
وما من شك في أن الرقم سبعين، الذي سطّره صاحب الطبقات، هو رقم جزافي، إذ من المستحيل أن يتحقق احصاء زيارات الشيخ لعاصمةٍ ليس لها منافذ خروج، أوتصاريح دخول.
أهم القضايا التي عالجها الشيخ ادريس في زمانه، كانت إبرامه الصلح بين الفونج والعبدلاب.
ومن أولياء الشفاعة والحجز في بلاط سنار الشيخ إبراهيم العودي، والجنيد ود طه، والأخير(كانت شفاعته مقبولة حتى عند أهل الحجاز(، واشتهر بالشفاعة مشايخ المجاذيب، الذين )يعطبون من يرد شفاعتهم(.
ومن أولياء الحجز كذلك، الشيخ عبد الرحيم أب نيران، الذي كان يسير إلى سنار في موكب الشفاعة (كأنه ود عجيب في زمانه).
ولا تعني الشفاعة بالضرورة مثول الولي أمام السلطان، إذ يكفي طلب(المدد) أو الاستغاثة بالشيخ، مهما بعدت المسافة الجغرافية.. وإن كان الشيخ قد انتقل، فإن بركته تحيط بطالبها وتنجيه من الأهوال والمآذق، وقد يتجسد المدد في هيئة مادية محسوسة، مثل تجسُّد بركة الشيخ حسن ود حسونة في هيئة أسد، لإغاثة رجل كان متأذّقاً، في مجلس القضاء السلطاني، أنظر : الطبقات، ص75 .. وطلب الغوث يمكن أن يصدر كنداء، أو بالمناجاة، أو بإضمار النُّصرة، ولو في المنام..على أن الصوفي ليس همه التشكي أو تقصُّد الانتصار على الآخر، بل الترقي بالصبر على الآخرين.