«الحلو مر» المشروب الذي وحد أهل السودان في شهر رمضان
قبل شهر من بداية شهر رمضان، وأحيانا أكثر، تعبق رائحة معتقة تبشر بقرب الشهر الكريم، حيث تبدأ في أرياف السودان صناعة مشروب حصري على شهر رمضان وهو «الآبري» أو «الحلو مر».
ولا عجب، فاللفافات التي تنتهي إلى هذا المشروب، تطوف في هذه الأيام مطارات وموانئ العالم، إذ يتم إرسالها للأبناء وحتى الأسر السودانية في اغترابها القريب والبعيد لتؤكد إنتماءهم لشعب السودان وتذكرهم بليالي رمضان، وتتناول هذا المشروب كل فئات الشعب السوداني الأغنياء والفقراء.
تقول الحاجة عائشة فضل، إن هذا المشروب تم ابتكاره ليناسب طقس السودان الحار، فهو يروي من العطش، وكان يقدم طوال العام وليس في شهر رمضان فقط ويوضع في مكان خفي داخل المنزل حتى يأتي ضيف من مكان بعيد فيخصّه أهل البيت بهذا المشروب، لكن وكما تقول عائشة، إن الزمن تبدل وصارت هنالك مشروبات أخرى كثيرة ومتنوعة للضيفان ليصبح الحلو مر في شهر رمضان فقط!
ورغم أن الكلفة الاقتصادية لهذا المشروب أصبحت باهظة، في ظل الوضع الاقتصادي الذي يعيشه السودان، فلا زال كثير من السودانيين يصرون على وجود «الحلو مر» في المائدة الرمضانية. وتتكافل الأسر وتتضامن في إعداده، ويصنع عادة في البيت الكبير للعائلة ويوزع لبقية أفراد الأسرة داخل وخارج السودان، ويتم إنتاجه بشكل جماعي طوعي، وتعتبر مرحلة إعداده حدثا في البيت يبتهج له الأطفال كثيرا، ويحتفلون بتناول مخرجاته ولفائفه قبل الجميع. ويعتبر «الآبري» مشروبا شعبيا خاصا بالسودان ونادى كثير من الباحثين في التراث بضرورة حفظه وتسجيله. ويفضل الكثيرون «الحلو مر» عادة في النهار الحار لذلك يحتفظون به لما بعد رمضان. ويصنع من الذرة النابتة (خاصة من نوع الفتريتة وهي نوع من الذرة عند طحنها تعطي اللون الأحمر). وعلى الرغم من أن الكثير من التقاليد الراسخة في تراث الشعب السوداني اختفت نتيجة للمتغيرات العصرية المتلاحقة، إلا أن المائدة الرمضانية ما تزال تكافح لتحافظ على سماتها العامة التقليدية بأكلات ومشاريب شعبية أصبحت متوارثة عبر القرون مثل «الحلو مر» ملك المائدة كما يحلو للسودانيين تسميته.
و«الحلو مر» مشروب معقد في طريقة تصنيعه، فإعداده يمر بطقوس عجائبية يبدأ التحضير لها منذ شهور قبل حلول الشهر المبارك ويحتاج لكميات كبيرة من السكر للوصول إلى طعمه المطلوب، وهو في أساسه خليط من الذرة المخمرة والبهارات وبعض الأعشاب، من عيش (ذرة نابتة)، وزريعة والنصف الثاني يطحن، وغرنجال، وعود عرق أحمر، وكمون حلبة، وعرديب، وكركدي، وتضاف له أعشاب أخرى حسب المكان الذي يصنع فيه وطبيعة الناس الذين يقدم لهم وقدرتهم الصحية، فأصحاب بعض الأمراض مثل «إلتهاب المصران» تضاف لهم أعشاب معينة وتسحب أخرى.
ويحتاج إعداد المشروب المميز لعدة أيام، حيث تبدأ النسوة التحضير لإعداده قبل شهر أو شهرين من حلول رمضان وتوضع الذرة على الخيش وترش بالماء لعدة أيام حتى تنبت ويخرج منها الزرع وتسمى هذه العملية محلياً بـ «الزريعة» وتشرف على هذه المرحلة نساء خبيرات وماهرات. ويقص الزرع بعد ذلك ويرمى، بينما تؤخذ الذرة النابتة وتجفف وتطحن وتطبخ في النار لتصبح «مديدة» وتوضع معها البهارات وبعد ذلك تشكل على شكل لفافات في صاج على نار قوية وتسمى هذه المرحلة بـ «العواسة».
مرحلة «العواسة» أو تجهيز اللفافات تعتبر كرنفالا نسائيا له طقوس وعادات ووجبات محددة، فيه تتجمع النساء ويتشاركن في عملية إعداده «كل يوم لدى أسرة» لكن الآن دخلت ظاهرة تأجير نسوة «للعواسة» وفي هذه الحالة تتجمع النساء أيضا ويتبادلن الحكايات والأقاصيص والأخبار، وهي مناسبة تتكرر ـ للأسرة ـ مرة واحدة في كل عام لذلك تحرص جميع النساء على حضورها.
ويتم وضع لفافات «الآبري» في الماء منذ منتصف النهار لتتشبع المياه بمكوناته ويصفى قرب موعد الإفطار ويضاف إلى المائدة الرمضانية ولا يكاد يخلو أي بيت سوداني من هذا المشروب في الشهر الكريم.
هنالك نوع آخر من «الآبري» يسمى «الآبري الأبيض» ويختلف عن «الحلو مر» في مكوناته وطريقة إعداده ومذاقه، وبدأ هذا النوع في الإنقراض لأسباب كثيرة، لكن بعض الأسر السودانية ما زالت حريصة على وجود النوعين على مائدة إفطار رمضان.
صلاح الدين مصطفى
الخرطوم ـ «القدس العربي»