عبد الله الشيخ : (شعب كل حكومة)..!
قرأنا في النوافذ السابقة، سطوراً عن علاقة متصوِّفة السودان بالسياسة، ورأينا أن بعض مشايخ الطريق، كانوا يحظوا بمكانة اجتماعية وروحية تسمو على مقام أمراء وسلاطين دولة الفونج، وأن بعضهم كان يشارك في الحياة السياسية، ويعتلي بصورة مباشرة، مناصب تنفيذية.
في هذا الحيز نتحدث عن فئة ثالثة، نسميها (بِطانة السلطان).. هذه الفئة موجودة في كل قصور الحاكمين، على مدار التاريخ الإنساني، يمكن النظر الى البطانة كفصيلين، أحدهما راغب في السلطة، وآخر راغب عنها.
الفصيل الأول، هم (البرجوازية الصغيرة)، أو (ذوي الياقات البيضاء)، أو هم من يُسمون في مجتمع السودان بـ (شعب كل حكومة)..! وهؤلاء لا تخلو منهم أروقة الأنظمة، قصورها ومكاتبها..هذا الفصيل يجيد التزلُّف والتسلل إلى بلاط الحاكم، وتستطيع أن تتنقّل من حال الى حال، حسب تقلبات السياسة.. أما الفصيل الثاني فهو الاقرب الى ما نحن بصدده من وصف مشاركة الصوفية في السلطة.. هذا الفصيل يتعامل مع السلطان (كقدر إلهي)، يتعايشون معه كما يتعايشون مع عوارض الدنيا وتبدل المناخ..أنظر: الإبريز، ص192
بهذا الفهم يؤدي (الفقرا) دور البطانة الصالحة التي تحض على الخير، وتحتسب تعسف الحاكم عليها وعلى الرعية، أو تلعنه سراً وجهراً، إن خالف إيقاعهم (الطوباوي).. أهم الوظائف التي يشغلها هذا الفصيل، هي القضاء، والفتوى، والتدوين، والتعليم، وإقامة الشعائر، والدعاء.. وغالباً ما يسمى الولي الصوفي ، باسم الوظيفة أو الدور الذي يقوم به.
يدل تراث هؤلاء، على احتكامهم إلى النص (القرآني، الحديث، السيرة ، المذاهب الفقهية، مدونات وسير وفتاوى الصوفية) كمرجعية لا غنى عنها،، و من هنا جاءت المغالاة بأن هذه الفئة أنجزت حلم المتنطعين في تطبيق الشريعة..
الحقيقة التي لا مِراء فيها، أن اللّاحقين من دعاة الإسلام السياسي، جنحوا إلى توصيف مواقف هؤلاء الفقرا ، بأنها تطبيق للنص الديني- الشريعة الإسلامية- بينما الحقيقة هي، أن النصوص نفسها، تكيفت مع البيئة الاجتماعية، واختلطت بالأعراف والتقاليد، الأمر الذي جعل أولياء القضاء والفتوى يميلون إلى التوفيق بين المتخاصمين وإبرام الصلح، أكثر من إستصدار الحكم المسنود بالنص.
يتفاوت الاستهداء بالنص- قرآناً كان أم فقهاً- حسب ظرف المكان ومستوى تمدد الثقافة العربية الإسلامية فيه، ومستوى الفهم العام للموضوع الديني المختزل دوماً في ممثليه.. كانت الشريعة بين الناس مفاهيم موغلة في العمومية، لا تلم الغالبية العظمى بفحواها وتفاصيلها إلا من خلال مقتطفات يسيرة تتيحها الثقافة العامة للعصر، ممثلة في الكرامة والمدائح، وغيرها من ضروب التعبير الشفاهي.
لم تكن الشريعة نصوصاً معلومة، والاحكام التي كانت تصدر بمسماها، تأتي على سبيل التبرك بمسمى القداسة، ومعالجة الوقائع تحت دثارها كان ضرورة تاريخية، في واقع كان إقامة الحد فيه، يُفسَّر عند العامة كخروج عن الراسخ في أذهانهم، بأن حالهم الروحي والإجتماعي (الهجين) هو الدين.
إن حال العامة في اعتقادهم هذا، لا يختلف كثيراً عن حال النخبة التي تدعي أن الشريعة تجد حظها من التطبيق في ظروف السودان، وهو إدعاء واهم، ضخَّمه بقاء هذه الفئة تحت ظل الحاكم، فتأصلت في داخلهم رقابة ذاتية وحساسية تتقصد تخيُّر ما يريد ومراعاة مشيئته لدرجة تطويع النص ليساير رضاه ومصالحه،، مع زخرفة تلك المسايرة بهالة القداسة، عوضاً عن تنفيذ العقوبة الحدية المباشرة، أو الإعلام الصريح عن حرفية النص، ثواباً كان أم عقاباً
في مقابل تسخير السلطة لهذه الفئة، لأداء وظائف تعضيد السلطة بنفوذهم الروحي، يقوم السلطان بإغداق العطايا عليهم. وتتحدد مواقع الأولياء من السلطان، بمستوى الأداء الذي يرضيه.. ولم ينجُ من ذلك، حتى القاضي دشين، الذي وصفه ود تكتوك، بأنه (قاضي العدالة الما يميل بالضلالة)..! وهذا ما سنعود إليه لاحقاً.. إن شاء الله..