عن الاتفاق السوداني الأوروبي بشأن اللاجئين
مشكلة اللجوء في السودان
ميكافيلية أوروبا
في انتظار الطوفان
قفزت مشكلة اللجوء إلى قمة أجندة المشاكل الدولية المزمنة خلال السنوات الأخيرة، وضاقت أوروبا بها ذرعا وطفقت تلتمس الحلول بكل السبل الميكافيلية وفي أي مكان وبأي وسيلة وطريقة.
ولم يعد المشكل كما كان في السابق مجرد ترف تنشغل به الحكومات والمنظمات الطوعية لإظهار “إنسانية” العالم المتحضر وللتعويض النفسي جراء الشعور بالتقصير تجاه عالم استعمروه سنين عجافا ويسمى ثالثا ومنكوبا بالحروب والأزمات السياسية.
وإن لم يتمكن العالم المتحضر المزود بكل أسباب القوة المادية والعسكرية من فرض الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة على الأنظمة الديكتاتورية بسبب تضارب المصالح، فليكن ذلك بممارسة النفاق عبر حلول جزئية تذر الرماد في العيون ولا تقرب الحلول الجذرية والمستدامة التي ثمنها التضحية بالمصالح المرتبطة باستمرار الأنظمة الفاسدة الباطشة.
اليوم طوفان موجات اللجوء نحو أوروبا يؤرق حكوماتها ويؤزها أزا، وبلغ مستوى لم يبلغه منذ الحرب العالمية الثانية، وبدلا من تقديم المساعدة والعون للاجئين الفارين إلى أوروبا من جحيم الحروب، اتخذت أوروبا سياسات طرد وردع قاسية.
وقد دعا ذلك منظمة أطباء بلا حدود التي تتخذ من مدينة جنيف مقرا لها لرفض أي تمويل مصدره الاتحاد الأوروبي وقالت إن ذلك جاء احتجاجا على سياسات الردع المخزية التي ينتهجها، وتكثيفه الجهود لإبعاد المهاجرين عن الشواطئ الأوروبية.
وقد مدت أوروبا في سعيها المحموم لوقف اللاجئين جسور التعاون مع السودان الدولة الموسومة برعاية الإرهاب من أوروبا، وتفرض عليها -بجانب الولايات المتحدة- عقوبات قاسية منذ عقود، وتحدثت الصحافة الألمانية عن اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والخرطوم من أجل ضبط الحدود ومنع مرور اللاجئين إلى ليبيا.
مشكلة اللجوء في السودان
تصنف أوروبا السودان باعتباره من أكثر الدول الأفريقية التي تلعب دورا محوريا في “تصدير” اللاجئين من أفريقيا إلى أوروبا، وذلك بحكم موقعه الجغرافي وحدوده الممتدة المجاورة لست دول. كما أن تباين الأعراق والقبائل فيه وتداخلها مع أعراق وقبائل الدول المجاورة سهل من استغلال بعض مواطني تلك الدول للأمر من أجل طلب اللجوء باسم قضية دارفور.
وتزايدت أعداد الأجانب في السودان بشكل غير مسبوق في السنوات القليلة الماضية من دول الجوار بسبب الصراعات والحروب والنزاعات والفقر والبطالة وطلب الهجرة واعتبار البلاد ممر عبور، مما حمّل السودان أعباء كبيرة انعكست على مستوى معيشة المواطن السوداني ومستوى الخدمات المقدمة له.
ونتج عن ذلك ارتفاع معدلات الجريمة واتساع نطاق جريمة الاتجار بالبشر. وتشير آخر تقديرات للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين وطالبي اللجوء في السودان قد يصل نصف مليون شخص. وتقول المفوضية إن للسودان تاريخ راسخ على صعيد حسن ضيافة اللاجئين وطالبي اللجوء.
وكان السودان كذلك محل إشادة من المفوض السامي والمبعوث الخاص للأمين العام للشؤون الإنسانية الذي زار السودان أكتوبر/تشرين الأول 2014 ونوّه بكرم السودان في استقبال لاجئي جنوب السودان. وقال بعد زيارة مواقعهم: “نحن ممتنون للغاية لحكومة وشعب السودان على كرم الضيافة والتي ما زالت تقدم للاجئين من جنوب السودان”.
وللشعب السوداني مواقف إيجابي تجاه اللاجئين السوريين الذين اعتبرهم ضيوفا وليسوا لاجئين، وخلافا لباقي الدول العربية لم تفرض السلطات السودانية تأشيرة على السوريين، بل كفلت لهم حق الإقامة والتعليم والعمل.
ويحتضن السودان نحو 110 آلاف سوري وفقا للإحصاءات غير الرسمية، بينما تقدرهم منظمات أممية بنحو 40 ألفا دخلوا البلاد عقب اندلاع الحرب في سوريا. وقالت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إنها تواجه إشكالية تقديم المساعدات للاجئين السوريين، حيث تصطدم جهودهم دائما بالدولة السودانية التي تتمسك بمعاملة السوريين كمواطنين، الأمر الذي يصعب عملية تقديم المساعدات لهم بالنظر للوائح القانون الدولي التي تشترط تعريف اللاجئ.
لكن الأوضاع الاقتصادية البائسة في السودان جعلت قطاعا مقدرا من اللاجئين السوريين يعتبر السودان بوابة مرور إلى أوروبا.
غير أن للصورة جانبا آخر؛ إذ سبق لمنظمة هيومن رايتس ووتش أن اتهمت السودان بانتهاك القوانين الدولية إذ قام بترحيل مئات الإرتيريين إلى بلادهم التي قد يتعرضون فيها لانتهاكات من جانب نظام تعتبره قمعيا، مؤكدة أن “السودان أخفق في الظهور بمظهر دولة تحترم حقوق اللاجئين”. وأن الخرطوم أصدرت قانون لجوء جديد في العام 2014 ينص على أحكام تحد من حرية تنقل اللاجئين.
لكن الخرطوم تزعم أنها قامت بدور فعّال في التصدي للاتجار بالبشر، وهي ظاهرة تشكل مصدر قلق في منطقة القرن الأفريقي بكاملها. وتم اعتماد قانون لمكافحة الاتجار بالبشر في العام 2014، وتقول الخرطوم إن عدد الحوادث التي تم التحقق منها منذ العام 2012 قد انخفض. والاتجار بالبشر هو عملية توظيف أو انتقال أو نقل أو تقديم ملاذ لأناس بغرض استغلالهم. والهدف الأساسي والأول من ممارسات الاتجار بالبشر بصوره المختلفة هو الربح المادي. وأضحى الاتجار بالبشر ثالث تجارة بالعالم بعد تجارتي المخدرات والسلاح.
ميكافيلية أوروبا
الميكافلية في الأصل ثقافة أوروبية تعود لمؤسسها ومنظرها برناردو دي ميكافيلّي المفكر والفيلسوف السياسي الإيطالي (1469 – 1527) إبان ما عرف بعصر النهضة. فهو المؤسس للتنظير السياسي الواقعي، وتلك تسمية مخففة لسياسة “الغاية تبرر الوسيلة”.
والواقع أن أوروبا اليوم تحاول اتباع أي وسيلة للوقف موجات اللاجئين من العالم الثالث نتجت عن الحروب والأزمات التي تسببت فيها أوروبا ذاتها عبر سياسات أنانية ومصلحية آثمة دعمت ومازالت تدعم عبرها الأنظمة القمعية.
وسبق أن قال مالكوم ريفنكد وزير خارجية بريطانيا السابق ورئيس لجنة الشؤون الأمنية في مجلس العموم البريطاني: يجب ألا نشعر بالحرج حول كيفية سحق “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية)، حتى لو اقتضى الأمر التعاون مع النظام السوري وقال: “أحيانا تُضطر لعقد علاقة مع أشخاص بغيضين من أجل التخلص من أشخاص أبغض”.
واليوم ترى أوروبا أن أفضل استجابة لأزمة اللاجئين، التطلع إلى بلدان أخرى لحل هذه المشكلة نيابة عنها مقابل بعض الفتات المالي وربما التطبيع وكسر العزلة الدولية لدى البعض الآخر.
وعلى غرار اتفاقية استعادة اللاجئين الموقعة أخيرا مع تركيا، كشفت قناة ألمانية عن تسريب وثيقة سرية رسمية تؤكد سعي المفوضية الأوروبية للتوصل إلى اتفاق مع أربع دول أفريقية هي إريتريا وإثيوبيا والسودان والصومال، بحيث تلتزم باستعادة لاجئيها من أوروبا، مقابل مزايا تشمل مساعدات اقتصادية وتسهيلات بتأشيرات دخول الدبلوماسيين للبلدان الأوروبية. وقد شدد سفراء دول الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع لهم في 23 مارس/آذار الماضي، على أهمية عدم تسرب الوثيقة للرأي العام الأوروبي.
الأمر المدهش حقا أن الوثيقة تعرضت لأوضاع حقوق الإنسان في الدول الأفريقية الأربع، ووصفتها بالكارثية، بيد أن سوء هذه الأوضاع -وفقا للوثيقة- لا يمنع التعاون القوي مع تلك الدول في المجالات الأمنية. وركزت الوثيقة بصفة خاصة على التعاون في مجالات الهجرة والسفر وترحيل اللاجئين مع السودان، وكذلك حذف هذا البلد من قائمة الدول الداعمة للإرهاب في حال تجاوبه. ومن ضمن العجائب تحذير دائرة السياسة الخارجية بالمفوضية من الإضرار بسمعة الاتحاد الأوروبي، بسبب ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية للرئيس السوداني عمر البشير بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وردت منظمة هيومان رايتس ووتش غاضبة في بيان لها: إن “من السخرية تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا”.
وبعد تسرب الوثيقة لم تفلح محاولات الاتحاد الأوروبي بالنفي والتنصل، خاصة أن وزارة الخارجية السودانية أكدت اتفاق الخرطوم مع الاتحاد الأوروبي على وقف تدفق اللاجئين من بؤر الصراع في أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، بل أكدت الخارجية تلقي السودان مبلغ (١١٠) مليون يورو لضبط الحدود، وإنشاء معسكرات وتوفير الرعاية الصحية وإقامة مشروعات تنموية. وفيما بعد أعلنت بعثة الاتحاد الأوروبي في السودان عن وصول فريق من خبراء الهجرة من بروكسل للخرطوم لمناقشة المسائل المتعلقة بمسارات الهجرة عبر الحدود.
وبدأ السودان فعليا تنفيذ اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي؛ إذ قام في الثاني من يونيو/حزيران الحالي بتسليم إيطاليا ميراد ميضاني، الشهير بـ”الجنرال”، وهو إريتري الجنسية ويعتقد أنه مسؤول رئيسي في عمليات تهريب المهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا. واعتقلته السلطات السودانية في أحد شوارع الخرطوم في أواخر مايو/آيار الماضي. ورغم رواج أخبار بأن الخرطوم أعتقلت الرجل الخطأ لكن متحدثا باسم الوكالة الوطنية للجريمة في بريطانيا، التي اشتركت في العملية، قال: إنها “عملية متعددة الأطراف ومعقدة ومن المبكر للغاية التكهن بشأن هذه الادعاءات”.
في انتظار الطوفان
إذن لغة المصالح هي التي جمعت المتناقضات؛ فأوروبا التي ترى في نظام الخرطوم نظاما بغيضا، لا ترى حرجا في التعاون معه لدفع أمر أكثر بغضا (اللاجئون)؛ ورغم أن دول الاتحاد الأوروبي موقعة على ميثاق اللاجئين الذي يمنع طرد أو إرجاع لاجئ إلى حدود أو مناطق قد تكون حياته فيها عرضة للخطر، لكنها تسلك كل السبل للالتفاف على ذلك.
السودان اليوم بلد مأزوم سياسيا واقتصاديا بسبب غياب مناخ الديمقراطية والحرية، ورغم ذلك ما فتئ الغرب يزود الخرطوم بالأدوية المنقذة للحياة، الأمر الذي يعمل على إطالة عمر النظام وبالضرورة إطالة المعاناة الشعبية. والخرطوم على ما يبدو مستعدة بل سعيدة بالقيام بدور الشرطي أو العميل المخابراتي مقابل الحصول على هذه الوصفات المنقذة للحياة.
وللخرطوم سجل تعاوني طويل مع الغرب والولايات المتحدة برعت عبره في تطبيق النهج الميكافيلي؛ ففي 14 أغسطس/آب 1994 ألقت الخرطوم القبض على إلييتش راميريز سانشيز المعروف باسمه الحركي كارلوس والذي لقبته أجهزة الأمن والمخابرات العالمية بكارلوس الثعلب، وسلمته إلى فرنسا. وعقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 أبدت الخرطوم تعاونا معلوماتيا كبيرا مع واشنطن فيما عرف بالحرب على الإرهاب.
إن سياسة الأدوية المنقذة للحياة لن تصمد كثيرا وسينهار الوضع في ظل امتناع النظام عن تقديم إصلاحات سياسية حقيقية وتنازلات جذرية لصالح الوفاق الوطني، وحينها ستكون الارتدادات الزلزالية أوسع نطاقا، فالسودان عبر التاريخ هو بلد هجرات، وأي اضطرابات عنيفة فيه ستعيد كثيرا من المهاجرين إلى بلدانهم في المحيط الأفريقي كله وسيحدث الانفجار العظيم ويعم الطوفان الذي تحاذره أوروبا.
ياسر محجوب الحسين
كاتب صحافي وأستاذ جامعي
موقع الجزيرة