منى عبد الفتاح : كل هذا الاهتمام بإرتيريا
تأخر تقرير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ربع قرنٍ حتى خرج في يونيو/حزيران الجاري بحقيقة، مفادها أنّ جرائم ضد الإنسانية تُرتكب في إرتيريا منذ استقلالها عام 1991. وزادت اللجنة بتوصيةٍ وجهتها إلى مجلس الأمن الدولي، بإحالة ملف الوضع في إرتيريا إلى المدّعي العام في محكمة العدل الدولية.
قد لا تخفى جرائم القتل والتعذيب والاسترقاق والسجن والاختفاء القسري والاضطهاد والاغتصاب، التي تتم ممارستها بشكل ممنهج ضد المدنيين الإرتيريين منذ الاستقلال. وليس جديداً استبداد الدولة والتمييز العلني على أساس العِرق والدين، في هذه الدولة الصغيرة القابعة على جزء مهم من البحر الأحمر، من دون أن يكون لها وجود فعلي ومؤثر على الساحة الإقليمية.
أدّت محفّزات على المستوى الإقليمي إلى الإلتفات إلى إرتيريا، منها الفوضى وانهيار نظام الحكم في اليمن. وتقابل اليمن بموقعها المهم وتركّز الصراع المنطلق من قضايا تنموية وقبلية وسياسية تستغل العنصر المذهبي، منطقة القرن الأفريقي، لما تمثله هذه الجهة المقابلة من أهمية استراتيجية متصاعدة، نسبة لنشاط صناعة نقل النفط البحري، ثم الشاغل الأمني المتمثّل في إمكانية التحكم في الممرات المائية في هذه المنطقة.
لم تتميز إرتيريا، الدولة الحديثة نسبياً بعد انفصالها عن إثيوبيا في 1974، بحكم إداري ذاتي، بقوة من الناحية السياسية أو الاقتصادية، على الرغم من إطلالتها المباشرة على البحر الأحمر، وضمها ميناءين من أهم الموانئ في أفريقيا، وهما عصب ومصوّع اللذان فقدتهما إثيوبيا وعادت مغلقة من دون حدود بحرية. وكانت إرتيريا قد أُجبرت من قبل على الدخول في اتحاد فيدرالي مع إثيوبيا عام 1952.
عارضت إثيوبيا استقلال إرتيريا، معتمدةً على أحد بنود ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية في المادة (4) باحترام الحدود السياسية القائمة والموروثة من الاستعمار. وكان أكثر ما يهزّ عقيدة تطور إثيوبيا الاشتراكية لبلدٍ غالبيته من المسيحيين هو أن يمكّن حصول إرتيريا على الميناءيْن وسيطرتها على ساحل البحر الأحمر مع السودان ومصر من تحويله إلى بحرٍ عربي، من دون أن تكون لها إطلالة عليه. وإرتيريا المصنّفة غالبية قومياتها إلى ناطقين باللغة العربية ويدينون بالإسلام، بالإضافة إلى من يدينون بالمسيحية ونسبة ضئيلة تعتنق ديانات أفريقية روحانية، تزيد من مخاوف إثيوبيا بزيادة دعم الدول العربية لها، والضغط على إثيوبيا لقطع علاقاتها مع إسرائيل.
بدأت القوى الكبرى في الظهور، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، وأضفت بُعداً دولياً على
“لم يتم الاختراق الإيراني لليمن، وتمدّده حتى السواحل الصومالية، إلّا بقبول إرتيريا”
الصراع الإقليمي، بعد أن خاضت الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا، بالتضامن مع الجبهة الإثيوبية الموحدة، معارك ضد نظام الرئيس الإثيوبي، منغستو هايلي ماريام، وانتصرت عليه، وفرّ إلى زيمبابوي، لتسيطر الجبهة الشعبية لتحرير إرتيريا على البلاد والعاصمة أسمرا في يوم 25 مايو/ أيار 1991.
ثم عقدت الولايات المتحدة مؤتمراً في لندن في 27 مايو/ أيار 1991، بالإضافة إلى مؤتمر لجبهة التحرير في الخرطوم، كان من ضمن ما اشتمل عليه هو التخلص من الأنظمة المعارضة للولايات المتحدة الأميركية في منطقة القرن الأفريقي. وأعلنت الحكومة الإثيوبية الجديدة اعترافها بحق تقرير المصير لإرتيريا التي حصلت على الاستقلال في 25 أبريل/ نيسان 1993 باستفتاء شعبي أصبحت على إثره دولة ذات سيادة والعضو رقم 183 في الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من احتلال إرتيريا موقعاً جيواستراتيجياً في منطقة القرن الأفريقي، فإنّها لا تتميز بأي تأثير على مستوى الأمن الإقليمي، فضلاً عن المنطقة، فهذا الموقع كان مصدر أطماع دولية كبيرة، لإشرافه المباشر على هذا الجزء المهم من أفريقيا، كما يطلُّ من الضفة الأخرى على المملكة العربية السعودية واليمن، ومنه يمكن التحكّم في مسارات النفط والتجارة بين قارات العالم. يربط هذا الموقع بين أقرب طرق للملاحة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط وأقصرها، ما يجعل إرتيريا مشرفةً على نقطة الوصل هذه بين القارات الكبرى الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا. وفي مضيق باب المندب على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، يمرّ نحو 3.2 ملايين برميل نفط يومياً.
المحفّز الآخر هو استعانة إيران بإرتيريا في هذا الوقت، الذي فقدت فيه حليفها الاستراتيجي من أفريقيا جنوب الصحراء حتى القرن الأفريقي، وهو السودان. وبدأ هذا الفقد مبكّراً بانفصال الجنوب الذي لم يكن ذا أهمية بالنسبة لإيران. ولكن، بتقليص مساحة السودان تقلص تبعاً لذلك مستوى إشرافها على ساحل البحر الأحمر.
في الناحية الأخرى من البحر الأحمر، كانت تعتمل بوادر تدخلات إيران في اليمن، مستغلة الفوضى التي خلفتها ثورة فبراير/ شباط 2011. وهناك أحاديث عن استخدام إيران ميناء عصب الإرتيري ومضيق باب المندب، حيث أرسلت إيران من خلالهما المساعدات والأسلحة لتزويد المتمردين الحوثيين في اليمن، كما زوّدت من خلال خليج عدن بالقرب من القرن الأفريقي الإسلاميين المتشددين في الصومال بالسلاح والعتاد العسكري. ولم يتم ذلك الاختراق الإيراني لليمن بدعم المتمردين الحوثيين، وتمدّده حتى السواحل الصومالية، إلّا بقبول إرتيريا.
هناك عوامل أخرى جعلت إرتيريا تبدو مرحّبة أكثر مما هي متفادية ما يمكن أن تجلبه عليها هذه الصراعات المفترضة من متاعب في علاقاتها الإقليمية. منها تصاعد حركات المعارضة الداخلية ذات الصبغة الإسلامية السنية بعد تبني نظام الحكم التوجه العلماني. وقد لا تكون إرتيريا بالقوة والتأثير الذي يجعلها لاعباً فعّالاً في مسار العلاقات الدولية، نسبة لحجمها وتاريخها وموقعها الذي يفرض عليها السعي إلى التواؤم مع إقليمها. ولكن، نشأ كل هذا الاهتمام بها نسبة لضعفها الخارجي، والذي يمكن استغلاله للسيطرة عليها، وكل هذا لا يثير سوى قلاقل داخلية، لا يمتد تأثيرها سوى للجارة إثيوبيا.