(الإنقاذ) بنت الـ”27″.. حسابات الربح والخسارة (الحلقة الأخيرة)
27 عاما مرت من عمر انقلاب (الإسلاميين) في الثلاثين من يونيو من عام 1989م، حيث تم استلام السلطة لإنقاذ البلاد من تدهور أوضاعه السياسية والاقتصادية والأمنية، خاصة وإن قوات التمرد في جنوب السودان (الحركة الشعبية) وقتها كانت قد أجتاحت العديد من المدن السودانية بل واقتربت من محطات رئيسية تحسب مصدرا للإنتاج بالدولة.. الآن وبعد مرور هذه كل السنوات الطوال فإن البعض لايزال على قناعة راسخة بأن ثورة الإنقاذ الوطني كما يحلو للكثير من الإسلاميين أن يطلق عليها تسببت في إقعاد الدولة برغم من المساعي الجادة والمحاولات الحثيثة للإصلاح منذ منتصف التسعينيات وحتى العام الحالي وسعي قادة الثورة لحل مجموعة من الأزمات عايشها السودان ولا زال منذ ثلاثة عقود، إلا أن الحال بقى على ما هو عليه.. عبر هذا الملف نحاول ملامسة الواقع الذي آلت إليه البلاد بعد 27 عاما من عمر الإنقاذ..
تفكك المنظومة
يجمع المراقبون على أن “مفاصلة” الإسلاميين في تسعينيات القرن الماضي كان لها ما بعدها من حيث تشكيل واقع سياسي واجتماعي جديد بانقسام ما بين جماعة المنشية والنادي “الكاثوليكي” فمنهم من اتبع العراب دكتور حسن عبد الله الترابي، والآخر تمسك بمكانه في السلطة بناءً على تقديرات خاصة، هذه الأمور وغيرها يؤكد من عايشوا تطورات الأوضاع داخل الغرف المغلقة قبيل خروج الخلافات إلى العلن بأن الحرب الباردة كانت على أشدها والتنبؤ بالانقسام كان جائزا عقب ظهور خلافات ونقاط جوهرية جعلت من البعض يتشبث بموقفه وينادي بإحداث “تغيير” الأمر الذي جعل مجموعة من ذوات الدهاء السياسي ينقلبون على شيخهم بالتوقيع على مذكرة العشرة في خطوة كانت بمثابة “القشة” التي قصمت ظهر البعير، نتيجة لتطورات أحداث متسارعة من بعدها منع على إثرها الأمين العام للبرلمان د. حسن الترابي من دخوله، وحل المجلس الوطني من بعدها وصولا لمرحلة الزج به في السجن.
إسقاطات كبيرة
بالمقابل جميع هذه الأحداث كانت لها إسقاطات كبيرة على مستوى الكيان التنظيمي للإسلاميين والحزب الحاكم لـ(المؤتمر الوطني) حيث لم يتوقف الفيضان بخروج جماعة المنشية التي اتجهت إلى تكوين حزب المؤتمر الوطني واختيار الانتقال من ضفة الولاء إلى المعارضة حتى تقلدت في فترة من الفترات مراتب متقدمة وسط المعارضين الداعين لإسقاط النظام بالإضافة إلى خروج المسؤول الأول في حزب منبر السلام العادل المهندس الطيب مصطفى في العام 2004 إذ يعتبر الرجل من الإسلاميين ذوي الشراسة السياسية والعنفوان الطاغي في المجاهرة بالرأي، ناهيك عن خروج مجموعات أخرى من قبل هؤلاء فكان خروج الراحل مكي علي بلايل هو الآخر من المؤثرات الأساسية في المكون الداخلي للحزب الحاكم، حيث رافقه وشدت على يده مجموعة من القيادات صاحبة النفوذ والحكمة منهم وزير الدولة بالعدل الأسبق أمين بناني الذي هو الآخر اختار مسلك جديد عن (مكي بلايل) بتأسيس حزب العدالة القومي ليبتعد عن العدالة الأصل ولو إلى حين.
أصوات إصلاحية
إلى أن جاءت الأصوات الإصلاحية والتي بدت تعلو شيئا فشيئا يقودها نافذون وأصحاب توجه إصلاحي حسب ما ورد من مذكرات وتصريحات صحفية أودت بهم في نهاية المطاف إلى خارج أسوار مقر الحزب الحاكم بوسط الخرطوم، وعقب مثول بعضهم للتحقيق أمام لجنة للمحاسبة بدعوى الخروج عن اللوائح المنظمة للحزب ومحاولة تأجيج عضوية لـ(الوطني) على قياداته، فكان خروج د. غازي صلاح الدين العتباني زعيم حركة الإصلاح الآن في مارس من العام 2013 مؤكدا حينها أن حزبه السابق يعيش في حالة من الصدام الدائم بين تيارات جرفتها السلطة فتقاعس الحزب عن أداء واجباته الأساسية والتي منها المراجعة من وقت لآخر واستنباط الأفكار التي من شأنها العمل على تطوير الجهازين التنفيذي والتنظيمي للدولة والحزب، ولكن مع مرور الزمن لم يستوعب أهل الـ(الوطني) الدرس، بل وإن صحت العبارة وعوه بعد فوات الأوان حين خرج من بين أيديهم جنوب السودان، وتوسعت رقعة الحرب في النيل الأزرق وجنوب كردفان، واحتد الصدام مع المجتمع الدولي وأصبح هناك مسؤولون كبار في الدولة هم محط المطاردة مع حدوث بطء في عجلة التنمية والاقتصاد وتفاقم للديون وترد في علاقات السودان الخارجية، وذلك كله جاء على حساب (المواطن) الذي يرغب في إصلاح يسود مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية بالمركز والولايات.
أمام العاصفة
ما مضى جعل قيادات المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس البشير، يشدون على أنفسهم ويسعون إلى ابتكار سياسات جديدة بخلاف تلك السياسات التي كان عرابها الترابي، وهو أمين عام للحزب الحاكم المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والمجلس الوطني، حينها كانت الحرب الأهلية في جنوب السودان هي التحدي الأصعب، بينما الحصار الاقتصادي من الولايات المتحدة الأمريكية ووضع السودان ضمن مجموعة الدول الراعية للإرهاب، جعل المسؤولية وتركة الترابي على البشير ورفاقه ثقيلة والوقوف أمام العاصفة الداخلية والخارجية وقتها من الملاحظ ارتفعت نبرة الخطاب الإعلامي لدى الإنقاذيين من صفة (العسكر) بأن السودان مستهدف من الكتلة الإقليمية والدولية في موارده ومساحته وما يتمتع به من قدرات وإمكانيات تجعله مارد أفريقيا الأول دون منازع حال التخلص من الأزمات المحيطة به.
في سبيل تحقيق البقاء اتخذت مجموعة من الإنقاذيين في بدايات الثورة (القرارات) وصفت بالقاتلة والمميتة بل والتي اخذت مسمى شهرة “التمكين” وسط مؤسسات الدولة نتيجة لتسريح آلاف من الموظفين وإحالة البعض الآخر إلى الصالح العام، واستبدلت هذه الأعداد الكبيرة بآخرين يكنون كل الولاء والطاعة للتنظيم ويعملون على تنفيذ موجهاته السياسية بشكل دقيق ما ترتب على ذلك انهيار تدريجي في أوساط الخدمة المدنية بشهادة العديد من ذوي الخبرة والكفاءة والاختصاص وصولا إلى مرحلة ما يعرف بـ(الموت السريري) خلال السبعة والعشرين عاما الماضية، حيث دعت هذه الأخطاء إلى تقديم تنازلات يرى فيها العديد من المراقبين أنها قد أقعدت (الإنقاذ) بمرور الزمن، منها اتفاقية السلام الشامل والتي وقعت عليها الحكومة بعدما تلقت تعهدات ووعود من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والحصار الاقتصادي الذي تضرر منه السودان كثيرا على مستوى (عجلة) الاقتصاد والتنمية المستدامة وبرامج التعليم والصحة وتوفير مياه الشرب ومصادر الإنتاج، وفي هذا يعود المحلل وأستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية بروفيسور إدريس الدومة ويقول “إن نظام الإنقاذ بالانقياد وراء مجموعة قرارات قد اتخذت في غرف وأماكن مغلقة خرجت إلى الهواء الطلق فيما بعد في شكل سياسات كحملات التعبئة للحرب في جنوب السودان يرى فيها الدومة أنها مجرد حرب أهلية قامت على فكرة ترسيخ أقدام السلطة في الداخل، مؤكدا في الوقت نفسه أن (الإنقاذيين) بشقيهم العسكر والإسلامي كانوا على اعتقاد أنهم فور استلام السلطة قادرين على حل مشاكل السودان في فترة وجيزة، ولكن للأسف تحكم ما وصفهم بضعاف النفوس في المسألة جاءت بنتائج عكسية منها قرارات (متخطبة) في كافة مناحي الحياة بالإضافة إلى عدم المحافظة على بعض المنجزات واستثمار العائدات الاقتصادية بشكل الصحيح وتوظيف الموارد.
مجموعات مصالح
وهذا ما يعني حسب حديث الدومة أن الدولة لم تكن تفكر قط في إدارة الأزمات متى ما حدثت ولم تكن تضع لها التحسب مقرا في ذات الوقت أن (الإنقاذ) في بدايات التسعينيات وحتى المنتصف ظهر فيها أشخاص خلص كانوا ينظرون إلى التجربة بعين المشروع الذي يستوجب التمدد والانتشار وتقديم التضحيات في سبيله بيد أن دخول مجموعات (المصالح)، قلص من هذا الفهم وذلك عقب فتح بوابة الحزب الحاكم المؤتمر الوطني على مصراعيها تحت شعار حزب “الوعاء الجامع” فاختلط الصالح بالطالح فتكونت من بعدها تيارات وجزر كل تبحث عن مصالحها داخل المنظومة الكبيرة بالمقابل بصورة تدريجية هبطت إحساس المسؤولية نحو المشروع مع مرور السنين فأصبح الكل يستخدم سياسات المحسوبية ويستعين بمقولة “الأقربون أولى بالمعروف” في قضاء الحاجة ما جعل المجتمع السوداني في حالة من التكيف الجديد مع سلوك اجتماعي شل الخدمة المدنية فانتشر الفساد والغبن وسط الناس، وارتفعت نسب الفقر وغيرها من المؤشرات التي تؤكد أن تجربة الإنقاذ خلال 27 عاما الماضية كانت خصما على الدولة أكثر مما تكن إضافة لها.
رجالات الإنقاذ
بينما انفضت الساحة الإنقاذية عن بكرة أبيها من رجالات ارتبطت الثورة بأسمائهم سواء من المؤسسة العسكرية أو المدنية والتي يعني بها الإسلاميون الذين منهم من خطط وآخرون قاموا بتنفيذ، حيث كان عددهم خمسة عشر رجلا مثلوا حينها مجلس قيادة الثورة بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير منهم “14” ضابطا فبعد سبعة وعشرين عاما نجد أن السبل قد تفرقت بهؤلاء الأشخاص فمنهم من انتقل إلى الدار الآخرة ومنهم من ينتظر مبتعدا عن الأضواء وضجيج السياسة ودهاليز العمل العام، فأبرز قادة الثورة الذين انقطعت بهم الحياة هما المشير الزبير محمد صالح والعقيد إبراهيم شمس الدين على غرار سقوط طائرات كانت تقلهم في مناطق منفصلة كل على حده حيث سقطت طائرة الزبير في الثاني عشر من فبراير للعام 1998بنهر السوباط بينما تحطمت طائرة العقيد شمس الدين في الرابع من أبريل لعام 2001، أما الفريق أول بكري حسن صالح، الذي يتولى الآن منصب النائب لرئيس الجمهورية، ومن قبل كان من الشخصيات التي قل ما تظهر في وسائل الإعلام حيث عرف بشخصية الانضباط العسكري الصرف، بينما اللواء التجاني آدم الطاهر والذي شغل منصب المشرف السياسي لإقليم دارفور ومن ثم وزير الطيران وفي العام 2001 أوكلت إليه وزارة السياحة والبيئة والتراث، هو الآن قد عاد إلى أدراجه عقب التقاعد بممارسة بعض الأعمال الخاصة، في وقت عاد فيه اللواء (م) صلاح محمد أحمد كرار، للواجهة من جديد، حيث نال عضوية مجلس الولايات، عبر إحدى دوائر ولاية نهر النيل، أما اللواء فيصل علي أبو صالح والذي تولى حقيبة وزارة الداخلية بعد الإنقاذ واستقال في وقت مبكر متجها للعمل في القطاع الخاص هو الآخر، العميد عثمان أحمد حسن والذي يدير أعمالا تجارية في مجال الزراعة بمنطقة الخوجلاب الآن شمال ضاحية بحري بولاية الخرطوم، يسعى لزيادة إنتاجه من المحاصيل البستانية حيث دفع باستقالته منذ السنوات الأولى للإنقاذ، أما العميد محمد سليمان فهو الآخر يعمل مزارعا في منطقة مروي بالولاية الشمالية، بإحدى المزارع التي تنتج محاصيل الفاكهة، بالمقابل اتجه رئيس المجلس الأعلى للسلام العقيد محمد الأمين خليفة، للعمل التشريعي فتدرج فيه إلى أن وصل إلى منصب رئيس المجلس الوطني الانتقالي، وعند حدوث لـ(المفاصلة) فضل الانضمام إلى صفوف حزب المؤتمر الشعبي، ليصبح عضوا فاعلا فيه منذ العام 1999 إلى تاريخ اللحظة، العقيد طيار فيصل مدني مختار شغل في الماضي منصب وزير الصحة ثم واليا لولاية شمال كردفان، وهاهو رئيس جهاز الأمن وإدارة الشباب والرياضة، والتي تولى أمرهما اللواء إبراهيم نايل إيدام فقد تم إعفاؤه في السابع عشر من يوليو من العام 1994ليتجه للعمل بالزراعة وإدارة بعض الأعمال الخاصة، اللواء بيويو كوان والذي انتقل إلى الدار الآخرة على إثر وفاة طبيعية حيث شغل منصب المشرف السياسي لمنطقة أعالي النيل بجنوب السودان حينها، وعقب وفاته أطلق اسمه على أحد شوارع العاصمة الخرطوم، ليخلد اسمه حتى اليوم، كما توفي العميد “دومنيك كاسيانو” في العام 2012، العميد “مارتن ملوال” والذي كان عضوا في مجلس قيادة ثورة الإنقاذ تم إعفاؤه أيضا على أعقاب بيان شهير تلاه أمين مجلس القيادة، حيث تبقى السؤال أين ذهب رجالات الإنقاذ؟- وهل تخلو عنها بعد تخطيط مضنٍ كاد يكلفهم الأرواح حال فشل العملية الانقلابية وسط المؤسسة العسكرية؟- حيث من الملاحظ تجاه الأغلبية لارتياد أعمال خاصة بخلاف المهنة الأصلية، وهو ما يؤكد تبدل القناعة التي سادت في فترة من الفترات لدى مدبري الإنقاذ الأوائل.
موال الإسلاميين
الآن ومنذ عشر سنوات الأخيرة بات الشارع السوداني ينظر بعين عدم الرضا عن الإنقاذ التي ما إن جاءت حتى رفعت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان وأصبغت على ما يدور من حرب أهلية بجنوب السودان مفاهيم دينية جعلت السودانيين ما بين فكرة محاربة مجموعة تسعى إلى طمس هويتهم الدينية وهي (الإسلام) باعتباره الديانة السائدة في معظم أصقاع الدولة وما بين محاربة توجه لمشروع علماني يهدف إلى إعادة المستعمر مع استصحاب واستحداث بعض المستجدات في العالم، بين تلك الصورة والأخرى عاش السودانيون سنوات دفعوا فيها الأموال لصالح زاد المجاهد وهم وقتها قوات ومجموعات لـ(الدفاع الشعبي) وهو المُسمى الذي ساد في منتصف التسعينيات عقب إطلاق مبادرة الالتحاق بساحات القتال في أحراش الجنوب حينها ترك الطلاب مقاعد الدراسة سعيا من وراء نيل الشهادة أو النصر على مجموعة باغية غاشمة، بيد أن الزمن قد اظهر أمورا مغايرة بخلاف التي عهدت في أشخاص الإنقاذ ومن ارتسمت الصورة باسمهم فقد ظهر سلوك لـ(محسوبية) والمحاباة المحسوبان على “الفساد” ليخرج الأمين العام للشعبي د. حسن الترابي والإقرار بهذا الأمر ولكن للأسف بعد فوات الأوان برحيله وما كشفت عنه قناة الجزيرة من خلال مجموعة حلقات توثيقية للراحل أكد فيها الأمر.
الهضيبي يس: صحيفة الصيحة