وقال السدر للأشجار أني …!!
«أ» يصدأ اللسان من كثرة الكلام، وتصدأ العين من قلة الحلم!! هكذا كان يقول أدونيس، لكن هل تصدأ الأذن من صرير السخام..؟؟! أن تسمع خير من أن تنطق وتتحدث، فالسمع أفضل ألف مرة من كلمة تلقيها وتدفع ما لا تطيق وتستطيع، جراء ما تركته من مخلفاتها وأثرها الفادح، وأن تصدأ عينك من قلة الحلم لهو أمر شنيع، أن تكون معدوم الهم والفكرة التي تغذي في اللاوعي وداخل العقل الباطن، أوردة الحلم وترفع من الرصيد اللامرئي من الأحلام الدافقة. قليلة هي لحظات الحلم السعيد، وكثيرة هي الكوابيس , مثلما هو السكوت من ذهب والكلام من فضة، فإن قلة الحلم تعطيك ساحة جرداء تفصل آلاف السنوات الضوئية بينها وبيادر الآمال الكبيرة التي ترقد على وسادة من شعاع الروح الذكي. كان كبار المتصوفة من إبراهيم بن الأدهم والبسطامي والمحاسبي وبِشْر الحافي وشهاب الدين السهروردي ورابعة العدوية والفضيل بن عياض والسبكي وابن عربي وعبد القادر الجيلاني وابن الفارض وجلال الدين الرومي والعز بن عبد السلام وأحمد التيجاني.. وكل العرفانيين في مسار التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا في بلدنا السودان المترع بأهل الحقيقة والظاهر والباطن، يبحثون عن حقيقة الروح وكيفية إدراك الحق الأوحد في الكون، بحواس غير الحواس في مدى إدراكها المحدود وبطريق غير الذي يعلمه سائر الخلق أجمعين. لكن قصة الأنصاري عيسى، الأمي البسيط، الذي لم يتعمّق في المعرفة العقلية والفلسفات الإسلامية والفارسية واليونانية القديمة ولم يقرأ التاو الصيني، ولا تبحر في الأديان وعلم ركائزها الإيمانية… هي قصة يمكن أن تضاف الي كتاب الماورائيات وملامسة فياح العالم العلوي بكل جلاله وتجلياته، وذاك مرقى بعيد ..! «ب» وفد إلينا في مطلع السنوات الثمانين من القرن الماضي، في أبريل 1982م، بمنزلنا بمدينة نيالا، لتقديم العزاء في وفاة والدنا رحمه الله رحمة واسعة وجعل الجنة مثواه، أحد أعمامنا قادما من الضعين ، لم نره من قبل، فقط كنّا نسمع باسمه يتردد لماماً عند أهالينا في بادية الرزيقات، يذكرونه ولا يتوقفون عنده كثيراً، كأنه طيف مسافر بلا مآب، لا يلتقطون من ذكراه إلا هجرته للحبشة مع الأنصار بعد معركة الجزيرة أبا، غادر راجلاً من دارفور للحاق بالإمام الهادي المهدي في هجرته التي لم تتم إلى إثيوبيا لقيادة المعارضة ضد نظام مايو عندما كانت مايو ماركسية حمراء. لا يعرف أحد كيف وصل الأنصاري عيسى للحبشة والتحق بمعسكرات الأنصار هناك وهو قد اقترب من عامه السبعين، كان نحيلاً يلتصق جلده بعظامه، طويلاً طولاً بائناً، فيه حدبة صغيرة أعلى ظهره، عيناه غائرتان في حجريهما، فيهما بريق غريب، وجهه طويل يظهر عظم صدغيه, وينتهي الوجه النحيل بلحية مدببة بيضاء لا سواد فيها، يعتمر عمامته بعزبتها الطويلة بعد أن يلفها حول رأسه باتقان وحذق، يمشي مشية موزونة لا تعجل فيها ولا إبطاء، إذا مشى لا يصدر صوتاً ولا تحس بحركته الخافتة حتى لكأنه بعض نسمة ريح خفيفة لا جلبة لها ولا عصف ولا ضوضاء. وإذا تكلم حسبته هامساً، لا تعرف له من الصوت ميزة, إن صلى وتلا القرآن جهراً فعندها تجد لصوته بعداً يغور ومستوى آخر, ولا تعرف من أين نبع هذا الصوت العميق كالبحر الغائر في المسمع كصدى التاريخ والذكرى الغابرة…؟ له مسبحة من اللالوب، تغيّر لونها من مصاحبتها له لسنوات طويلة ومن كرّه المتواصل لحباتها، ولعلها سبب بعض الكدمات الخفيفة على خديه والحبيبات الغائرة بجانب سيماء الصلاة على جبينه فقد تعود بعد أن يرفع يديه في ضراعة لله أن يمسح بكفيه على وجهه والمسبحة بين كفيه تلطم بها لطماً خفيفاً الوجه المدفون بين الراحتين المتضرعتين. «ت» مكث معنا الأنصاري عيسى في المنزل لما يقارب الشهر، كنّا في عمر غضّ لكننا نفهم بعض ما في الحياة ونجهل الكثير، كان غريباً، قليل النوم, يغفو نهاراً بعد الضحى، صلاته في المسجد القريب كل الأوقات، لكن له مع الليل وشيجة غريبة ينتظر انتصافه والناس نُوَمُ… تراه في غسق الليل بزيه وهندامه الكامل , عمامته المرتبة المنظمة وطاقيته الطويلة المخروطية تبدو كقبة شهباء ، يبدأ صلاته وأوراده بصوته الخفيض ثم يصلي بتلاوة مجودة وأدعية فيها من التضرُّع والابتهال والتوسل ما يتفتت له الصخر.. وعنده تأدب غريب في مخاطبة ربه، بصوت متهدج فيه من الخشية والرجاء والخوف والحب والثقة المطلقة، وأحياناً يبدو في دعائه كمن يرد ديناً عليه, ويود أن يكافئ جميل صنيع, وأنى له ذلك مع صاحب الملكوت البارئ المصوِّر العزيز الجبّار. نغالب النوم ونحن نراقبه فيغلبنا النعاس فننام، لكننا نصحو مع ساعات الفجر, يوقظنا للصلاة بصوته العميق لنجده بهيئته تلك, ويردد أحياناً أهازيج ومديحاً وأناشيد جهادية للأنصار وهي بقايا ما كانت معه في الحبشة وما وقر في صدور انصار المهدية الصادقين، يغيب مع نسمات الصبح وقطع ليله المتبدد وهو في طريقه للمسجد، نجده في الصف الأول هناك، ولا يعود بعد الصلاة حتى تدركه الشمس حين تشرق وهو يتلو راتب الإمام المهدي، وتصافح الشمس وجهه وهو عائد، لا يشرب الشاي رغم حب أهلنا العجيب لشربه والرزيقات مغرمون بالشاي ، لا يأكل كثيراً حسبه لقيمات ، قليل المنام، كثير التأمل لا يتسرّب الصدأ إلى لسانه كما يقول أدونيس. «ث» بعثر علينا بعض اهتيامه الصوفي العميق، وهو منحة ربانية لا صلة لها بالطائفة التي ينتمي إليها، فالإنسان الصالح الموصول بالله والعارف به والمنقطع له ولعبادته وطاعته، له في الدنيا خطرات وأفكار وأحوال، قد تكون من باب الكشف والإلهام والعلم اللدنِّي وغيرها من مقامات المتصوفة، لكن الأنصاري عيسى عيساوي له حال آخر، فالتوفيق والإحسان والإيمان هي من سمات الصلاح العجيب الذي في قلبه، صدق الله في كل شيء وصدقه الله في ما نعرف، والدليل في ذلك أنه لم يكن يوماً مغتماً أو حزيناً، كان مشرق الفؤاد مضيء القلب والوجه، لا يجد عنتاً في حياته، كل شيء في الدنيا له فيه نظر ورأي صائب.. لا من كثرة علم وتجارب ،هو فقط إلهام من الله وتوفيق…. ما دخل وسيطاً في مشكلة إلا حلها، ولا توكل في سفر إلا سافر دون عوائق، يصل لأي مكان يريد بلا رهق ولا تعب حتى حسبه الناس يطوي الأرض طيّاً . يقول لنا في ساعات أنسه المحبب بلغة بسيطة نفصحها هنا: « الله موجود في كل مكان وأهمه قلوبكم» ، «أعبدوه في حب وأعرفوه فستخشوه ليس خشية خائف بل خشية إجلال»… كان يرى الدنيا كلها خيطاً منظوماً واحداً، لا يحب المجادلة، وصيته لنا «لا تكثروا من الكلام، السكوت والصمت مهابة فيه تأمل ومعرفة» اللغو الكثير كما يشير لنا مجلب للذنب ففيه الغيبة والكذب والشطط. سافر الأنصاري عيسى في تلك السنوات، وصوته الخفيض وصورته الباهرة وصمته المهيب، وصدأ اللسان والأعين والأذن علا فوق دنيا الناس, ولا أحد يُعطي من الحياة ما يسمو بها ويعلو مثله ..لكأنه حلق بحناحين ورف بهما في عنان السماء…!