عثمان ميرغني

الكذب.. مجاني!!


بصراحة الشعب السوداني عجيب.. كل سنة تفتح المدارس ويسمع من الحكومة حكاية (التعليم مجاني) فيذهب إلى المدارس فيكتشف أنّ المجاني هو الكذب.. ومع ذلك يرفع حاجب الدهشة.. كأنما هي أول مرة.. والمُدهش يدفعون عن يد وهم صاغرون.. بعد بضع لعنات مجانية.
أمس تلقّيت اتصالات من بعض أولياء الأمور.. قالوا لي إنّ الأمر الآن تطوّر إلى بدعة جديدة.. كثير من المدارس الحكومية تتقاضى رُسُوماً دراسيّة تزيد عن عشرة ملايين جنيه (بالقديم).. أكثر كثيراً من بعض المدارس الخَاصّة.. هذه الرسوم السافرة لا تُؤخذ تحت أيِّ مُسمى رَسمي.. بل غَالباً هي تَعليمات من مجلس الآباء ربما بدعوى تطوير البيئة المدرسية وتأهيل وصيانة الفصول..
عَلى كُلِّ حَال.. مهما كانت الرسوم وبأيِّ مُسمى.. ومهما تَعالت الشكوى، فقد دَرَجَت الحكومة على التغافل عنها لإدراكها أنّها مُجرّد (زَوبعة في فنجان) الأيام الأولى من فتح المدارس.. وحالاً ينساها الناس وينشغلوا بأزمة أخرى..
ومن عندي لوجه الله خدمة للطرفين.. الحكومة والشعب.. أطلب من أولياء الأمور أن لا يحرجوا الحكومة بحكاية (مجانية التعليم).. لسببٍ بسيطٍ هو أنّ فهم الحكومة للتعليم من أصله معطوبٌ تماماً..
الحكومة تُؤمن أنّ هؤلاء الأطفال الصغار هم مُسجّلون رسمياً في أصول أُسرهم التي أنجبتهم.. وأنّ تعليمهم هو عملية استثمار عائليّة لصالح الأُسرة التي عليها دفع تكاليف هذا الاستثمار الطويل المَدَى.. و(المعندوش.. ما يلزموش).. من لا يملك المال لتعليم أطفاله.. فسيرعى أُسرة بلا مُستقبل.. و(ذنبه على جنبه)..
بينما في الحقيقة في كل الأمم الراقية التي نهضت وسَمقت في سماء الحضارة.. الإنسان منذ هو نطفة في رحم أمه استثمار قومي.. ترعاها الدولة قبل أن يُولد.. وتتعهّده بأكمل رعاية بعد الميلاد.. ثم تحمله بكل عناية على أكف الراحة حتى يكمل تعليمه العام.. فهو أثمن وأغلى أصول الدولة.. وليس الأُسرة وحدها..
كل طفل يلفظه مصيره العكر إلى الشارع هو خسارة للمُجتمع وليس أُسرته فحسب.. وفي المُقابل كل طفل ينجح وينبغ هو لكل المُجتمع..
البروفيسور عبد الله الطيب هو فخرٌ لكل السودان.. الطيب صالح.. محمّد وردي.. وأمثلة كثيرة.. نجحوا ليفخر بهم وطنهم وشعبهم كله.. وليس أُسرهم.. هل الذي يتخرّج طبيباً يُعالج أبويه أو أسرته فقط؟ بل في أحيان كثيرة قد لا يحتاج الأب ولا الأم لخدمات الأبناء (المُرتبطة بتخصصاتهم) إطلاقاً..
أيِّ طفل تائه في الشارع من الفاقد التربوي هو في الحقيقة مشروع طبيب أو مهندس أو أيِّ تخصص آخر وربما نابغة مُتفرِّد.. لو كنا أحسنّا تعليمه.. بل وربما أيِّ مُجرم يُعاني المُجتمع من ويلات إجرامه هو إنسانٌ ناجحٌ، لكن الحكومة فرضت عليه أن يكون مُجرماً بمثل هذه الرسوم الدراسية المُخيفة التي تمتشق سيفها المدارس الحكومية وفي وضح النهار.. تحت بصر وسمع شعار (مجانية التعليم العام)..