مقالات متنوعة

د. ناهد قرناص : العيد في البطانة (3-3)


وصلنا متاخرين بعد جهد .. ..كان الاهل هناك يضحكون علينا ..طال الزمن ..حتى نسينا كيف السبيل اليهم ..لكنهم كانوا كما العهد بهم ..لولا بعض الشعرات البيضاء ..والكثير من تجاعيد الوجه ..وتلك الوجوه العزيزة التي غيبها الموت ..وبعض الأنفس الصغيرة التي اطلت الى الدنيا …لقلت ان الزمن لا يتحرك هناك ..الريف السوداني بكل تفاصيله لا يتغير ..كان النوم قريبا ..في الهواء الطلق ..بدون أي مساعدات خارجية ..لا مروحة ولا مكيف ..هواء نقي يغسلك وينظف رئتيك ..تنام ملء جفنيك ..تصحو بأول شعاع للشمس يداعب وجهك ..لتسمع صوت (النوبة) تعلن فرحة العيد ..الصغار الذين يلبسون الجديد..يدخلون القلوب بلا استئذان ..يمدون ايادي صغيرة واعينهم تبحث عن (الحلاوة)…يأخذونها …ومن ثم يتسابقون الى البيت التالي
.. تجانس ابنائي مع رصفائهم ..اكتسبوا اصدقاء بسرعة..واضعين اياديهم على اكتاف ابناء عمومتهم ..يتجولون بين بيوت القرية .. كانوا كأنهم قطع مفقودة من لعبة البازل ..كل منهم وجد موقعه بسهولة ..فأكتملت اللوحة بعودتهم ..كنت انظر اليهم وسط رفاقهم وهم يتحلقون حول صينية فطور العيد .. .. يأكلون بشهية .العصيدة الساخنة …يدخلون اصابعهم ويخرجونها ملطخة بملاح الروب ..ضحكت وانا اشاهدهم ..لم استطع تمييزهم من على البعد …كانت الجلاليب والطواقي تشابه بعضها البعض ..حتى ملامح الوجوه والضحكات المتبادلة تكاد تكون هي ذاتها.
الأمر في رفاعة لم يكن يختلف عن قرية (ود ساقرتة) كثيرا ..الا في تفاصيل البيوت وبناء الجدران ..لكن الوجوه البشوشة ..والقلوب الطيبة هي نفسها ..تلك المحبة الصادقة ..وذلك الود المتأصل..هناك التقيت اناسا حقيقيين لم يغيرهم زيف الحياة ..ولم يضطرهم الزمن الى وضع مكياج التكلف .. يسلمون عليك بترحاب ..ويفردون لك أجمل مكان في بيوتهم ..وأعز موقع في قلوبهم ..تحس انك مهما غبت عنهم فأن مكانك سيظل خاليا ينتظر عودتك ولو بعد حين .
أذكر انني قرأت هذه العبارة مرة (كل نفس ذائقة الموت ..ولكن ليست كل الأنفس تذوق الحياة )…في البطانة تذوقت الحياة ..التي ان افرغتها من كل زخرفها ..لظهرت لك الحقيقة بجلاء ..الحياة هي تلك المحبة الصادقة والمودة النادرة ..لا شئ أكثر ولا أقل ..هناك تبينت بعدا أخر للعيد ….العيد هو ان تغسل قلبك في بحار الحب والمودة ..ان تلتقي اناسا يبادلونك ذلك الود وتلك الألفة .. .. ان تغلق بيانات الهاتف ..وتلاقى الناس كفاحا بلا ماسنجر ولا واتساب .. .. ان يصفو ذهنك ويهدأ قلقك وتترتب أفكارك .. أن تنام ليلا امنا مطمئنا ..فانت بين اهلك ومحبيك ..العيد هو ان يأتي اليك ابنك المشاغب الصغير .. قائلا بلهجة اهله (العيد مبارك عليك ..القابلة قدمك لابو ابراهيم )..كل عام وانتم بألف خير ..أعفو مننا عافين منكم ..لله والرسول .