تحقيقات وتقارير

قراءة في قرار حركة النهضة (الفصل بين العمل السياسي والدعوي)

في منتدى مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر (أمس)
د.”أسامة الأشقر”: النهضة حركة سياسية لم تدعِ يوماً أنها دعوية
د.”لبابة الفضل”: سبقنا النهضة في ذلك في الثمانينيات
د.”الطيّب زين العابدين”: كل تجارب الفصل في السودان واجهتها المشاكل
د.”عبدالله دينق”: هذا القرار تكتيك من النهضة يمليه الظرف الراهن
رصد: عماد الحلاوي
جدال كثيف أثاره قرار حركة النهضة (الإسلامية) التونسية المتمخض عن مؤتمرها العاشر والقاضي بفصل العمل السياسي عن العمل الدعوي (أمس)، ردود فعل متباينة وسط قيادات وكوادر الحركة الإسلامية في السودان الذين تحلقوا حول منتدى مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر بين مؤيد ورافض، بعد قراءة للقرار طرحها أمامهم الدكتور “أسامة جمعة الأشقر” الخبير السياسي، مدير مؤسسة فلسطين للثقافة، والمستشار بمركز الرصد للدراسات.
وقال الدكتور “أسامة الأشقر” في قراءته للقرار، إن من أخطر القرارات أن تقوم جهة ما بإجراء تحولات جذرية على مستوى الرؤية تحت ضغط الواقع الكثيف، فإن ذلك يجر التكتيكي إلى مربع الإستراتيجي، وتدور الرؤية وتستمر وفق نطاق محدود كان يناسب زمانه.
وأشار إلى أن خطورة هذه القرارات أنها تكون في زمن التحولات الكبرى والسريعة، والمنطقة ما زالت في الرمال المتحركة لم تقف على شاطئ آمن.
وأضاف أن هذه القرارات تتحرك نحو اصطفافات لم تستقر وتترك اصطفافها المتعثر، فكأنها تتحرك من حفرة إلى حفرة، لكن ربما يكون كل ما في الحفرة الجديدة أنها أقل عمقاً وأقل خطراً في زمان اتخاذ القرار.
وقال “الأشقر” إن القراءات السياسية الجريئة لا ينبغي أن يكون هدفها تحقيق الهدف السياسي المنشود بقدر ما ينبغي لنا أن تكشف عن خبيئة المستقبل القريب وعواقب قراراتنا وتأثيرها ونبل مقاصدها.
وقال إن تجربة تجديد شباب الحزب العجوز برؤى ونظريات عقلية جديدة لم تمتحن على أرض الواقع ولم تعطَ فرصتها للتجريب والممارسة أو التدرج، أو تتأثر بفشل الحركات ذات الاتجاه الفكري المماثل في جغرافيات أخرى.
وأكد “الأشقر” أن الانقلابات التاريخية الأساسية لا تحصل إلا بفعل الزمان المتهيئ لها، فبإمكانك أن تصلح اللباس المناسب للجسم، لكن ليس بإمكانك أن تصنع الجسم الذي تضع عليه رداءك، وما يلائم شعباً لا يلائم بالضرورة شعباً آخر، فلكل شعب صفات موروثة تحمل توجهات بخفاء.
وربما تتغافل هذه الاتجاهات المنطق العاطفي والمنطق الأممي والمنطق التاريخي والمنطق الديني لصالح المنطق السياسي العقلي المظروف في محيطه الخاص، والشعوب لا تتأثر بمنطقية الخطاب بقدر تأثرها بالصورة العاطفية التي زرعتها كقيم راسخة نامية في نفوسهم، ولا نذكر تأثر النفس بالخطاب العقلي، لكننا لا نستطيع ضمان بقاء التأثير.
*تساؤلات منطقية
وتساءل “الأشقر” في قراءته ، هل أجرت النهضة مراجعاتها نتيجة دراسات حقيقية واعية بالتطور الطبيعي، أم كانت خطابات تسويقية للسيطرة على هاجس الإرهاب تحت ضغط الواقع التونسي الجديد؟ أم تأثرت بما جرى في مصر؟.. أم للتمايز عن الحركات الدينية التي تتجه عادة للعنف؟.. أم للإبقاء بتعهدات سبق أن قطعتها لدوائر محلية وخارجية، وذلك في ذروة سعيه لمنع تكرار السيناريو المصري في تونس والمواجهة مع القوى المدنية والأمنية والعسكرية المتخوفة على هوية البلاد، أو أنه خطوة تكتيكية سيزول الاعتماد عليها بزوال الضغوط المسلطة على الحركة؟.. أم هو تنظيرات في فقه الضرورة وحدود الاستطاعة (فاتقوا الله ما استطعتم)، أم هو التقاط سريع لإشارات الثورة المضادة المتمكنة مع التراجع الكبير لثقة الشعب بالثورة بعد فشل رموزها في الحكم في المرحلة الانتقالية، أم هو خوف من مزاج الشعب الكثير التقلب والشديد التأثر بضغوط الإعلام المعادي.
وقال “الأشقر” إن القارئ للبيان الختامي للمؤتمر العاشر لحركة النهضة يرى بوضوح أنه يقدم رؤى ومراجعات واعترافات جريئة وصادمة، فقد اعترف بضعف القوى السياسية بعد الثورة، وصعوبة تحويل الأحلام عندما تنزل للواقع، وأكد وقوفه مع الدولة ضد الإرهاب الذي شوه سمعة الإسلام وقرنه بالتطرف، وأعلن الخروج من عباءة الإسلام السياسي، ودافع في الوقت نفسه عن المرجعية الإسلامية، وأكد أن توجهه الجديد ليس منفصلاً عن تشريعات الإسلام، بل هو مستند إلى نصوص التشريع والاجتهاد فيها.
وأضاف أن المنطقة دخلت في موجة رمال متحركة وقعت قوى التغيير الاجتماعي والسياسي ضحية لها لكونها الأقل خبرة والأكثر هشاشة، مما أدى إلى إسقاط نماذج تنظيمية إسلامية عريقة في امتحان السلطة، كما تصاعدت تيارات العنف المرتبطة بجماعات دينية استغلت حالة الفراغ الكبير والاستقطاب الحاد وتصارع المصالح الإقليمية والدولية، وهي الجماعات التي تحركت في تونس وأضرت جداً بالحركات الإسلامية المعتدلة.
*تاريخية القرار
لقد سبق لحركات إسلامية في دول مختلفة طرح قضية تمييز الدعوى عن السياسة للنقاش والحوار، كما حدث في المغرب والأردن والسودان، كما أن فكرة الفصل أو التمييز ليست فكرة معاصرة حديثة، فقد سبقتها التجربة التركية التي كانت تعاني من تطرف العلمانيين بأشكاله الأولى قبل تشكيلها الـ”أرودغاني” الأخير، وسبقها أيضاً تجربة قديمة لـ”حسن البنا” مؤسس الإخوان المسلمين لا تتوفر لنا مصادر كافية لقراءتها وهو ما فصله الأستاذ “عصام تليمة” عبر سلسلة مقالات منشورة تحتاج إلى مزيد من التحقيق، فقد كان “البنا” يرى قبل اغتياله بعامين أن جماعته انغمست في السياسة دون إعداد لها، وأن الخناق يضيق عليها، وأن دخولها العمل السياسي بقوة جلب عليها مشكلات كبيرة لم تكن في الحسبان، وطرح “حسن البنا” طرحين مهمين، أولهما: فكرة البحث عن حزب بلا شعبية يتجه بأفكاره إلى مربع قريب من أفكار الإخوان، فيكون الإخوان الظهير الشعبي له، ووقع اختيارهم على (الحزب الوطني) الذي أسسه الزعيم “مصطفى كامل” بحيث يعبر الحزب عن المواقف السياسية للإخوان، وقد فاتح “حسن البنا” مسؤول الحزب حينها، “فتحي رضوان” في ذلك، وكادا يتفاهمان عليه، أو لقي ترحيباً من حيث المبدأ.
*مبررات القرار
وقال “الأشقر” إن الإسلاميين التونسيين يشخصون سبب فشل الحركات الإسلامية سياسياً بأن ذلك ليس بسبب الدعوة وإنما بسبب الخلط بينهما، وبين السياسة، وعدم وضوح هوية الإسلام السياسي، ويرون أن ما سيميز النهضة الجديدة عن بقية الأحزاب السياسية التونسية، أنها بنكهة إسلامية وخصوصية إسلامية لا تتمايز أو تتفاصل عن المدينة الحديثة أو تتحول إلى سبب يقسم التونسيين على أساس آيديولوجي.
ويستندون في بعض مواقفهم إلى أنه من المعروف في فقه السياسة الشرعية، أن هناك نوعاً من التصرفات النبوية يطلق عليها الفقهاء أنها (تصرف بمقتضى الإمامة)، أي بمقتضى الرئاسة العليا للدولة، وهذه تختلف عن التصرفات التي تكون بمقتضى التبليغ عن الله تعالى.
ويرى الإسلاميون التونسيون أن الفصل في صالح العمل الحركي الدعوي الذي سيجد بيئة أكثر استقراراً وأمناً وقانونية بعيداً عن الاستنزاف السياسي وصراعاته الدائمة والتي تستخدم فيها الجماهير ضد بعضها مما يؤدي إلى انقسامات مجتمعية حادة تميز المتدينين عن بعضهم وشرائح اجتماعية وسياسية عن ثقافتها التقليدية الجامعة المتأثرة بالدين.
ويبررون ذلك بأن أولويات العمل السياسي مختلفة عن أولويات العمل الدعوي وأدواتها مختلفة أيضاً.
وظيفة السياسي الوصول للسلطة وإدارة الحكم بينما الدعوي يتوجه إلى وعي الإنسان، وتكتيكات العمل السياسي تلجأ للتنازلات والانحناءات وربما الانكسارات والتحركات السريعة.
وأن مرجعيات العمل السياسي هي الدستور، أما العمل الدعوي فهو مصادر التشريع ولا توجد هذه المصادر في شكل قوانين وإنما قيم.
كما أن مركزية الدعوة تستند إلى المسجد بينما مركزية السياسي ترتكز إلى القصر والحكومة والبرلمان، ومن المفيد تحييد المسجد عن الصراع السياسي.
فالدولة تدافع عن الدين في المفهوم السياسي والحزب يكون معها أو ضدها بخلاف الدعوة، ومع ذلك فإن الجانب الدعوي سيكون محكوماً ببعض السقوف السياسية المتعلقة بالتعامل مع الدولة وولي الأمر والتعامل مع المجتمع، وسيطالب الحزب الجانب السياسي بحماية الحريات ومن جملتها الحريات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية.
*مداخلات المشاركين
وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم والقيادي الإسلامي الدكتور “الطيّب زين العابدين” في مداخلته إنه منحاز إلى قرار فصل العمل السياسي عن الدعوي، مشيراً إلى تجارب السودان في ذلك منذ جبهة الميثاق الإسلامي، حيث كان هناك معسكران (التربية- السياسة)، ثم أتت تجربة الجبهة الإسلامية، ورغم أن كل التجارب فى السودان واجهتها المشاكل، إلا أنني أقف معه.
وتجربة حركة النهضة ليست جديدة على الدول العربية، وهى تجربة خاضعة للنضوج أو الفشل.
وذهبت أستاذة علم الاجتماع بجامعة الخرطوم الدكتورة “انتصار أبو ناجمة” في ذات الاتجاه إلى أنها شاركت حركة النهضة مؤتمرها هذا، والتدرج في خطابها هذا أملته الظروف المحيطة بها، مؤكدة أن الحركة الإسلامية السودانية سيقت حركة النهضة في الفصل بين العمل السياسي والدعوي.
وقالت في تعقيبها إن التوجه الذي تقوده حركة النهضة هدفه التراضي مثله مثل الحوار الوطني الذي نقوده في السودان.
وأبانت أنه إذا تبنت كل الحركات الإسلامية هذا القرار، تكون فكرة الإسلام (دين ودولة) أسقطت.
وقالت الأستاذة بجامعة الخرطوم والقيادية الإسلامية في مداخلتها إنه في حقبة الثمانينيات كان العمل الدعوي ذراعه (المنظمات) ، والعمل السياسي ذراعه (الجبهة الإسلامية)، ويميز بينهما إستراتيجية الانتشار.. ورسالتي للماجستير كانت عن (آليات فصل العمل السياسي عن الدعوي).. ويبقى ما فعله “راشد القنوشي” هو التقنين لهذا الفصل في دستور الحركة.
وأبان الأستاذ بجامعة المغتربين والقيادي الإسلامي الدكتور “عبدالله دينق نيال” أن الأديان كلها أتت لتسوس الحياة العامة، والفيصل يبقى في التقديم والتأخير في العمل.
وهم في الحركة الإسلامية السودانية يقدرون لإخوانهم تونس فهم دولة غارقة في العلمانية ليأتي هذا القرار كـ(تكتيك).
وأضاف: (النهضة تعلم تماماً أن الدين شامل ولكن هناك عوامل داخلية وخارجية ملحة، فلا بد لها أن تنحني لتقاوم).
وأشار أستاذ الأديان بجامعة أفريقيا العالمية الدكتور “سوار الدهب عيسى” إلى أن جميع الأحزاب السياسية التقليدية في السودان فصلت الدين عن السياسة (الختمية – الأنصار).
وأكد القيادي الإسلامي الشيخ “ميرغني محمد عثمان” أن القضية أتت تكتيكاً وهى من باب الضرورة، (فأهل تونس أدرى بأنفسهم) ، أم نريد أن نضيق علة الناس في خياراتهم الظرفية.
وذهب الباحث في الحركات الإسلامية الدكتور “عبد الرحيم عمر” إلى أن ما قامت به حركة النهضة التونسية، خطاب موجه للقوى الغربية، وأضاف: (هي حركة صغيرة جاءت للسلطة بالأشواق، والغنوشي قال لي بلسانه إن حركتهم للاستهلاك المحلي وليس للتصدير).
وقال لى:(أنتم في السودان كان مدخلكم القانون (الشريعة- النظام العام) لا قادتكم من القانونيين، ونحن مجتمعيون، لأن قادتنا من المجتمع المدني، وهذا القرار خطاب للغرب بأننا حركة معتدلة، فالدين عندنا أن تحفظ الأصل وتواكب العصر).
وأشار مدير مركز دراسات الإسلام والعالم المعاصر الدكتور “أحمد عبد الجليل الكاروري” إلى أن الإسلاميين في السودان أحدثوا تقدماً كبيراً في التواصل بين العمل الدعوي والسياسي.
وأضاف أن بلاد “الغنوشي” تختلف عن بلادنا، فإن كان هناك فقه ضرورة فهذا مقدر، والقرار فيه تخصصية في العطاء.

المجهر