مقالات متنوعة

عبد الله الشيخ : «القُبّة تِحتها فَكِي»..!

في مقابل تسخير النخبة، ممثلةً في مشايخ الطريق والقبيل، كان سلاطين وأُمراء وحريمات، سلطنة سنار، يغدقون العطايا لأفراد تلك النخبة، مقابل أدائهم وظائف تُعضد النظام.. وتتحدد حظوة أولئك من العطايا، بمستوى الأداء الذي يرضي السلطان.. كان تسخير السلطان للأعيان واقِعاً، لّفَ في سرابيله حتى القاضي دشين، الذي وصفه الشيخ فرح ود تكتوك، بأنه (قاضي العدالة الما يميل بالضلالة(.. كان دشين، أشهر قضاة السلطنة، لكونه حُظي بمؤرِّخ، مثل ود ضيف الله، قام بتدوين شذرات من حياته التي تلاوحت بين الولاء للنص، والانغماس في بحر التصوف الذي كان ولا يزال، هو الحقيقة الأولى في مجتمع السودان.
كان دشين يتعامل مع الأحداث من معين مُختلط، وفي كل ذلك لا تغيب ذاته عن الاصطباغ بالحدث، فقد كان صوفياً في التزامه بالمذهب الشافعي، وفقيهاً- قاضياً- يصدر أحكامه على وقائع، في مجتمعٍ يسود فيه الفقه المالكي.. وربما كان ذلك الشتات، أحد دواعي تفرُّده، كقاضٍ توفيقي، بين تفرعات الفكرة الدينية عموماً.
هنا ينبغي الإشارة الى أن التعميم بشيوع العدل، أو التقرير بتطبيق الاحكام (الشرعية)، في ذلك العصر، أو في غيره من العصور والحِقب، ماهو إلا نزوع نحو المُبتغى، لأن شيوع العدل في دنيا الناس، هو المستحيل، بل هو الخُرافة بعينها..
على كلٍ، كان بعض الأولياء في سلطنة سنار ، يجمع بين أكثر من وظيفة من الوظائف التي تعضِّد النظام السياسي القائم، مثال ذلك الشيخ عبد الله بن صابون، وهو خريج الخلوة البارع في علوم النحو والصرف والفقه والمعاني والبيان والبديع، والعروض والشعر والخط.. كان ابن صابون يُناثِر عِلمه ومعارِفه هنا وهُناك، وإلا لما تحققت له تلك الشهرة، التي جعلت ود ضيف الله يقيّده كأحد أعيان عصره.. كان خياطاً وجلاداً، وإلى جانب تدريسه للطلاب ونسخه للكُتب، كان يملأ الأسبلة.. إلخ ..توزّعت نخبة ذلك العهد، في محيط السلطة، فكان بينهم من هيأ له نفوذه الروحي والإجتماعي، أن يكون فوق مقام الحاكم، بينما تخصص بعضهم في الشفاعة لدى السلطان، وآخرون كانوا يُشاركونه الفعل السياسي.
داخل هذه الفئات الثلاث، يتخفى آخرون، تحت مظهر الهيئة البالية والتوهان والجذب، لـ (سِتر مقاماتهم)، أو نحو ذلك.. وحالهم ذاك، بمثابة (القِباب) التي لا تُظهِر للناس، ماهم عليه من الصلة بالله.. وكان بين هؤلاء، من يمكن وصفه بالجنون، الذي لا تجد من يقطع به أو يُشخِّصه بصورة حاسمة.
كان أمثال هؤلاء محط آمال الحكام والرعية، وهم عليّة القوم.. بموازين التصوُّف- موازين الحقيقة- هم خزائن أسرار، ومشاريع التبرُّك.
يتبدى الدور السياسي لهؤلاء في حرص الحكام والرعية على استرضائهم والحذر من إغضابهم أو الدخول معهم في معركة، بهذا يدخلون في الحياة الإجتماعية كعنصر تأثير قوي، في عين ما تحرروا به من قباب مظاهرهم .. العاهة، في مجتمع السودان، لا تلغي دور صاحبها وحضوره المباشِر وغير المُباشر،، وهذا الاسماح، فتح الباب بالضرورة، لدخول الأدعياء على الحركة الصوفية عموماً، لكن ليس لأحدٍ الحق في الطعن أو اتهام المشايخ في (قِبابِهم)، إلا إذا كان على حقيقة من الأمر، أو كان صاحب قدم في علم الباطن.
لاغرابة عند السوداني، إن أصبحَ أحد المهووسين / الهائمين / المعتوهين / المجاذيب/ المجانين- سمّهِم ما شِئت- شفيعاً أو مستشاراً، أو صاحب نفوذ في بِلاط الحاكم.. كل ذلك وغيره، يمكن أن يكون من حظ المهووسين، المجانين، الهائمين…لكن، هل كان بين هؤلاء من صعدَ، إلى قمة الجّبل..؟