حكايات غربالي القرض والهوسا وكريت..!
(أ) من أعمدة مدينة نيالا ورموزها الحاج غربالي، وهو من أكابر الهوسا ووجوههم، كان أهله قد أحاطوا ببيته الواسع الفسيح عندما كوّنوا حي (زنقو) من نهاية حي الوادي شرق في اتجاه الجنوب، حتى ضفاف وادي برلي شرقي نيالا وأحيائها القديمة، وكان الرجل فاكهة المدينة وطيباً من أطيابها وطيوبها، كنّا نقترب منه ومن منزله بوُد وحُب، عندما نذهب لزيارة صديقنا وزميلنا في مدرسة نيالا الشرقية الابتدائية(محمود صالح حسين) وهو من أذكى وأمهر أبناء دفعتنا وأكثرهم حبّاً للعلم والتعلُّم والمعرفة، وكانت اهتماماته ـ ونحن بالصف السادس ـ أكبر من سنه وعمره، وكان ذا مهارة يدوية في صناعات الطفولة الصغيرة وصاحب دُربة وخبرة بأجهزة الراديو ومقتنيات ذلك العهد البسيط قبل أن تجتاحه جائحة الإلكترونيات والحاسبات الدقيقة ولوثة السيلكون. ولأن صديقنا (محمود) من أسرة عزيزة في الهوسا وله اعتزاز بأهله ولغته وثقافته الخاصة، كان يتحدث عن فضائل حاج غربالي وأسرته الضاربة الجذور في نيالا، كأنه يتحدث عن أسطورة مهولة وقصص خرافة عالية الإيقاع وخبرته بالطب الشعبي التقليدي وتجبير الكسور حتى كراماته وطريقة تدينه ومهارته في حرفة التجارة. (ب) ذات يوم والشمس لم تراوح كبد السماء، كنّا نجلس تحت شجرة نيم باسقة الطلع شديدة الاخضرار، جلست امرأة مسنّة أمام أكوام الجوافة النضرة التي تبيعها، يتقافز صبية صغار حولها، علت من الاتجاه المقابل للشارع ألوية من الدخان منبعثة من بيت(خامسو) وهو يصنع (الأقاشي) التي يحملها على رأسه وهو يقود دراجته الهوائية شاقاً حي الوادي ليصل بها طازجة ودافئة إلى سوق نيالا قبل أن تعمل سكينه الرقيقة الحادة في بصل زالنجي الأبيض الضخم. أطلّ علينا في تلك اللحظة حاج غربالي وسألنا أسئلة سريعة عابرة عن المدرسة، ثم رأى أنف صديقنا (م) تسيل، فقال له: (عليك بالقرض فإنه دواء لكل داء) ومضى الرجل نحو المسجد لصلاة الظهر يحثنا على اتباعه.. وكان جيبه الكبير يضجُّ بحركة (القورو) و(القرض) الذي يمضغه كأنه طعامه الوحيد. (ت) رنّ اسم القرض في آذاننا فأهل غرب السودان بالطبع منذ قديم عهدهم يستعملونه علاجاً وترياقاً، لكن أن يحدثنا به حاج غربالي بهذه الطريقة وتلك الوصية النادرة، فتح الذهن لمعرفة (القرض) أكثر ولتتبع فوائده وأخباره وانتقلنا من استعمالاتنا له، وهو أخضر كمادة صمغية أو لمداواة الجروح الغائرة والنازفة ونزلات البرد إلى معرفة كنه هذه النبتة العجيبة وفك طلاسمها وسحرها ومعرفة أسرارها. ولم نوجه أدوات معرفتنا بالقرض، للمعلوم من استخداماته خاصة أنه وثيق الصلة بالمدابغ البلدية في حي الجبل بنيالا، وهي مساحة ضخمة محاطة بالشجر امتلأت بالحفر المخصصة لدبغ الجلود.. تفيض بمنقوع القرض الذي تسبح بداخله الجلود بمختلف أنواعها وأحجامها.. وسمعنا في الدنيا بالطبع لم يصم عن مدح القرض (دباغ النيء) لكن حاج غربالي لم يكن يقصد فقط القرض كعلاج للرشح والأنفلونزا والكحة والإسهالات وغيرها، فقد كانت تجربته بالحياة أوسع وأعمق وأشمل. شجرة القرض شوكية من عائلة الشوكيات كشجر الهجليج والطلح يتكون فيها صمغ كصمغ اللبان تتدلى ثمرة القرض مثل حبات التمر الهندي ولها شوكة طويلة حادة كانت تستخدم في أزمنة قديمة كمخدر لدى ختان الصبية. لا يخلو بيت في دارفور أو مناطق غرب السودان وإفريقيا جنوب الصحراء ومناطق السافنا من ثمار القرض، وأحياناً توجد جوالات عديدة في البيت الواحد تُرصُّ رصاً وتُردم ردماً. يُستخدم القرض وهو أخضر لين، ويستخدم جافاً ومسحوناً أو منقوعاً في الماء، وتتصدر صنوف استخدامه من (قرشه) جافاً أو سحنه وسفه أو لبخه أو استخدامه وهو أخضر طري أو يستخدم كبخور لكف العين وطرد الشرّ أو كعلاج لأدواء الصدر. (ج) ومنذ صغرنا سمعنا قصصاً حول القرض كعلاج للأمراض، فهو مضاد حيوي فعّال وقاتل للجراثيم ومطهِّر للجروح، يتداوى به من الأمراض الصدرية والجلدية والجيوب الأنفية والحساسية والكحة والإسهالات وطارد للديدان وعلاج ناجح للنقرس داء الملوك. وقد شاهدت سفيراً لدولة عربية يلبخ به قدمه من النقرس. ويستخدم في التمائم وأعمال السحر وبخور التيمان و(الدساتير) وأعمال العالَم السُّفْلي أو التداوي من أعمال الجن والشياطين كما يعتقد جمهور الناس.. ولأن القرض أو شجر (السنط) صلب الخشب فإنه يستعمل في عتب البيوت وسقفها، ويدخل في صناعة بعض الأثاثات المنزلية ولا تسلم شجرته من نفع، فحتى اللحاء له نفع وفيه مصالح للناس. (ح) لكن من أقاصيص ذلك الزمن البديع، زمن غربالي وحي (هوسا ـ زنقو) أن حرباً نشأت بين قبيلتين فغارت إحداهما على مضارب الأخرى.. فهرب الناس من تلك المضارب تحت ضغط القتال ولم يستطع رجل مصاب بالجذام أن يهرب، فاختبأ في كومة من جوالات القرض الجاف، وبقي لمدة يومين وسط القرض وعندما خرج بعد هدوء الأحوال لاحظ أن يديه وقدميه بدأت تتحسن من آثار الجذام وخف المرض وشعر أنه ليس ذلك المريض.. واستمر من تلك اللحظة في التعامل مع القرض والتداوي به حتى شفاه الله. وقصة أخرى أن رجلاً عافه الناس لمرض جلدي ودمامل وقيح وصديد يسيل من جروح وقروح جسده، فاعتزل المجالس وطرده أهله لرائحة جسمه النتنة ومنظره القبيح وذات ليلة غلبه النعاس فنام فوق كومة قرض وأثناء نومه عرق عرقاً شديداً وعند الصباح وجد الدمامل في ظهره وجنبيه قد بدأت تخف وانقطع القيح والصديد منها، وشفاه الله بالقرض. (خ) تذكرت غربالي وصديقنا محمود صالح حسين الذي لا أدري أين هو الآن؟ وأنا أسمع مجدداً عن القرض وأسمع جلبة عن الهوسا.. فهم قوم أصلاء كرماء أهل وطن وتراب وعز وجاه وتلاحم وتراحم وتكاتف قلّ نظيره. تذكرناهم وقد أكلنا (الدنواكي) وشربنا (القدوقدو) والتهمنا (الكلوكلو) وسائر أكلاتهم المميزة وعشنا معهم مسيرة عمر طويل. وما بين غربالي والقرض والهوسا، كانت نيالا ودارفور وكل غرب السودان.. والسودان كله يحفظ للقرض أو السنط قيمته النادرة، ألم تقل الأمثال الشعبية: (التسوي كريت في القرض تلقا في جلدها…)، (القرض البداوي المرض) والمثل الشهير: (وراه الكي والقرض النَّي!..)..