محمد لطيف : الدولار من قارعة الطريق.. إلى خارطة الطريق
رغم مغالطات الحكومة.. أو بعض أطرافها.. قبيل الإعلان الرسمي عن انفصال جنوب السودان.. كان جليا أن الاقتصاد السوداني سيتأثر تأثرا بالغا بذهاب الجنوب.. فلم يكن سرا أن الجنوب سيذهب بنحو سبعين في المائة (70 %) من الموارد المالية للبلاد.. ولأن الحديث عن الاقتصاد.. ولأننا لم نجتهد أصلا في استنباط موارد حقيقية تحل محل النفط بذات الانتظام والكفاءة واستمرارية التدفق.. فقد كان من المفترض.. بل وهو الشيء المنطقي الوحيد أن نتوقع هبوطا في عملتنا الوطنية يوازي ذات الحجم الذي خرج من الموارد.. أي بنسبة 70 % أيضا.. وقد يكون ما سأقوله غريبا.. ولكنها في تقديري الحقيقة.. فالاقتصاد يعني لغة الأرقام.. عليه كان ينبغي أن نحسب كل شيء في اقتصادنا استنادا إلى نسبة الـ 70 % تلك.. عليه كان علينا أن نتوقع ومنذ وقت مبكر أن سعر العملة الوطنية يمكن أن ينحدر حتى مبلغ أربعة عشر جنيها مقابل الدولار الأمريكي.. وهذه تعادل انخفاضا في قيمته بنسبة 70 % تقريبا من قيمته حين وقوع الانفصال.. أو بلغة الاقتصاد حين خرج النفط من موازنة البلاد كمورد رئيس..!
وكان المؤمل بالطبع من الدولة.. لا الحكومة وحدها.. اتخاذ كافة التدابير التي تحول دون تدهور العملة.. والتدابير تلك لا تخرج من أحد خيارين.. أو كليهما معا.. الأول إيجاد موارد حقيقية تعزز قائمة صادرات البلاد للحصول على عائدات حية من ذلك الصادر.. والثاني الحد من قائمة الإيرادات بالحد الذي يحقق وفورات حقيقية من العملات الصعبة لتوجيهها لمواجهة الاحتياجات الفعلية الملحة.. والأفضل بالطبع أن تنحو الدولة نحو الأخذ بالخيارين.. وحين نقول الدولة فإننا نعني الجميع حاكمين ومحكومين.. ولكن الأمر بالضرورة يبدأ من الحكومة.. فهي التي تضع السياسات.. وتصدر القرارات وتتخذ التدابير.. ويأتي من بعد ذلك دور المواطن في مساعدة الحكومة.. بتغيير نمط حياته.. وسلوكه الاستهلاكي.. ولكن المواطن لن يبلغ هذه المرحلة ما لم ير بأم عينيه إجراءات على الأرض تعكس جدية الحكومة وتؤكد إدراكها وفهمها الصحيح للأزمة.. فالناس على دين ملوكهم..!
وبافتراض أن البدائل كانت عصية.. وأن الموارد الجديدة لم تؤت أكلها.. لسبب أو لآخر.. فليس هناك ما يبرر الأخذ بالخيار الثاني.. وهو خفض الاستيراد.. فمنذ أن بدأت آثار الانفصال تلقي بثمارها المرة.. كان كثير من المراقبين يتوقعون.. وبعضهم نادى بذلك صراحة.. أن تراجع الدولة قائمة الواردات.. وتحظر منها ما تحظر.. وتقلل منها ما تقلل.. وتضبط منها ما تضبط لضمان سلامة حسن استخدام وحسن توجيه الموارد الشحيحة من النقد الأجنبي.. ولكن عوضا عن ذلك فوجئنا بفضيحة الغش الهائلة في استيراد الأدوية.. ولا بد أن نلاحظ هنا أن الفترة الزمنية التي وقعت فيها ظاهرة الغش تلك.. هي ذات الفترة التي نتحدث عنها الآن.. التي كان يفترض أن تبدأ فيها سياسة مراجعة قائمة الواردات..!
الآن.. وقد تجاوز انخفاض العملة الوطنية.. حاجز السبعين في المائة.. وبلغ سعر الصرف في السوق الموازي ما يتجاوز السبعة عشر جنيها للدولار.. فهذا يعني أنه قد تدهورنا لأكثر من آثار الانفصال.. وهذا يعني أن ثمة خللا هيكليا في بنية الاقتصاد.. مما يستدعي إجراءات صارمة لمواجهة الموقف.. وإذا كانت حصائل الصادر لا تزال تراوح مكانها.. فلا سبيل غير مراجعة قائمة الواردات لخفضها للحد الأدنى.. وأن تقتصر على السلع والمطلوبات الملحة فقط.. فإن كان هذا دور القطاع الاقتصادي في الحزب الحاكم.. فإن على القطاع السياسي عبء أكبر.. وهو تشجيع المعارضة على المضي قدما في إنفاذ خارطة الطريق.. لا تطفيشها بعبارات من نوع.. (إنهم سيوقعون بأوامر الخواجات).