“البلطجة”… وظيفة تاريخيَّة
يكشف مخطوط مصري قديم يعود إلى سنة 1861، بعنوان “تعليم البلطجة”، عن أنَّ هذه “المهنة” كانت واحدة من الوظائف النبيلة في الواقع العسكري المصري، ومن قبله في الدولة العثمانية. فلم تكن “البلطجة”، آنذاك، صفةً تُطلَق على الأشقياء المستهترين الذين يجورون على حقوق الضعفاء، وهو ما يتبادر إلى الذهن عند سماع الكلمة الآن. كما أنَّ لقب “البلطجي”، قد أطلق على أصحاب مناصب رفيعة في الدولة العثمانية، تكريماً لهم وتشريفاً على أدوارهم العسكرية. تتكون الكلمة في التركية من قسمين. الأول: “بلطه”، وهي أداة حادة معروفة لها ذراع خشبية تستخدم في القتال أو تقطيع الأشجار، و”جي” وهي أداة نسبة إلى الحرفة؛ فيكون معناها: حامل البلطة، والمختص باستعمالها. ويبدو أنَّ البلطة كانت إحدى أسلحة الجيش العثماني مثل كل الجيوش الأوروبية قبل سيطرة عصور الرصاص والقنابل والألغام، وهي تشبه من حيث الشكل والاستعمال أداة الساطور.
ويقابلها في الفارسية “الطبردار” الذي شاع في عصر المماليك. وكانت فرق البلطجية تقوم بأدوار خاصة من أعمال قطع أخشاب الغابات والحفر وإطفاء الحرائق، وتزويد القصور بالحطب، ومنهم من كانت توكل إليهم بعض الواجبات الاحتفالية، فضلاً عن واجبات الحراسة. وقد انتقل نظام البلطجية إلى مصر في عهد، محمد علي باشا، ضمن مدرسة “المهندسخانة” ب
التي أنشأها سنة 1834، وهي مدرسة خاصة بالمهندسين العسكريين.
كتاب “تعليم البلطجة” الذي كتبه، أحمد أفندي العلمي، ويبلغ 56 ورقة؛ كان يُعدُّ المنهج النظري الذي كان يُدرَّس لطلاب هذه الفرقة العسكرية. وثمَّة إشارات داخل الكتاب تلمح إلى أن مؤلف الكتاب الأصلي فرنسي الأصل، وعاش في القرن التاسع عشر. ويكشُف الدكتور، عماد رؤوف، في دراسته للمخطوطة، عن أن نشأة جماعة البلطجية في الدولة العثمانية بدأت في القرن الخامس عشر، وكانت تتكوَّن في بادئ الأمر من شُبَّان البلقان المختارين للخدمة العسكرية. وقد اشتُقَّ من مصطلح “بلطجي” عِدّة معان استخدمها العسكريون، فـ”البالطه صايي” هو المعاون، و”البالطه لامق” تعني القطع بالفأس والهدم والتخريب، و”البالطه لق” تعني الغابة التي يُحتطَب منها.
وتظهر طبيعة الوظيفة من خلال الدروس التي قدمها الكتاب، والتي تبلغ 16 درساً، وتدور حول تشغيل مهمات الحصار. وأعمال الحفر البسيط التي يقوم بها المحاصرون لتمكّنهم من التقرُّب من القلعة المحاصرة، وهم مستورون من النيران والتراب الخارج من الحفر. وهناك، أيضاً، درسٌ لأعمال الحفر السريع، من أجل تشييد أبنية من الخشب ملتصقة ببعضها لحماية الجنود من القنابل والرصاص. وغيرها من الدروس التي ألحقت بها حوالي 70 لوحة توضيحية.
ويحدد الكتاب صفة البلطجية بدقة، فهم فئة محددة من منتسبي المجموعة التي يسميها “طائفة” أو “فرقة”، وليس جميعهم، وكل منهم يحمل رقمًا تسلسليّاً، حيث يجري الحفر البسيط بواسطة طائفة أو فرقة من البلطجية مكونة من ثمانية أفراد تحت إدارة شخص واحد هو رئيس الفرقة المذكورة، ومن ضابط ناظر الحفر، والأفراد الأربعة الذين يشتغلون في الحفر يُسمَّون بلطجيَّة، والأربعة الآخرون يُسمَّون خدّامين أو يماغية؛ لأن يماغيتهم منحصرة في المساعدة في المناورات وتحضير المهمات، والبلطجية مُنمَّرون (أي مرقمون) والخدامون مُنمَّرون أيضاً، وهم يشتغلون بالمناوبة.
العربي الجديد