قليل من الرومانسية على حالة الحزن الأسمر قد يفيد
< الأخ الدكتور المفكر والمهجر قسراً التيجاني عبد القادر. وجدت ورقة على أعتاب مؤتمر الحركة الإسلامية التي صارت في هذا الزمان لا تقدّم أوراق اعترافها لأي أحد حتى للذين يحترمونها لأنهم باختصار يخافونها. كانت (أبيات على الوريقة المنسية تهمس حتى لا تلفت أصحاب الياقات البيضاء والخيلاء وهم يدلفون كل العصور أنا بها فكأنما عمري ملايين من السنوات إني كمصباح الطريق عزيزتي أبكي ولا أحد يرى دمعاتي كل الدروب أمامنا مسدودة وخلاصنا في الرسم بالكلمات هل هذا أنت أم نزار أم جيلكم الذي طمسوا كلماته رسماً بالتزييف. < كم في السياسة السودانية من محامٍ وطبيب ومهندس دخلوها دون تدريب فأفسدوا السياسة وتعلقوا بها لأنهم في الحقيقة قد فقدوا مران وحرفية مهنتهم الأولى فادعوا التضحية بها. وقد صدق الناقدون لا يعيب مهنة المحاماة والطب والهندسة في زمان اللا تجويد إلا أمر واحد وهو أنها لا تبني أمجادها إلا على الأنقاض.. فالمحامي يطلب سجيناً أو قتيلاً أو جريحاً.. والطبيب لا يطلب إلا عليلاً ومحتضراً.. والمهندس لا يطلب إلا طريقاً بدّدته الأمطار وجسراً يتداعى بصيانة على حديد غير مطابق للمواصفات.. إنها سادتي ليست علل أفراد إنها علل شعب وأمّة ووطن. وقديماً دعا أرسطو باكياً: أيتها السماءُ المباركة دَعِي كل أمرئٍ يمارس المهنة التي يعرِفُها. < كان خبيراً في تخطيط المدن والطرق والمواصلات.. ولأنه تأبّى على رجال الأعمال والساسة من زبانية الفساد الذين يطالبونه بكل الفاتورة في مقابل بعض العمل وبعض التجاوزات، فقد هاجر إلى الريف وأدار مزرعة أبيه ومزّق عشرات الفواتير.. وصار كامل الصحة والعبادة والتدبّر والاطلاع فصارت له فلسفة في الحياة وصارت له صداقات واثقة مع الغبش. أصروا عليه أن يقدّم ورقة في مؤتمر عاصمة الولاية عن أزمة المواصلات، فرفض وأصروا فرضي.. ولكن دهشتهم كانت كبيرة حيث أخرج روشتة صغيرة لم تكن عن السفر والمواصلات ووسائله بل كانت عن السودان المهمل.. سودان ما بعد الخرطوم.. والسودان الآن ثلاثة، سودان العاصمة، وسودان الولايات، وسودان المهجر، والجميع جياع لأن لا أحد ينتج.. افتتح بسلام الاسلام وصلّى على المصطفى وقال إنها ليست لي بالكامل ولكنها مقولة أخذتها من الذين صادقتهم من الكتاب هؤلاء الثقاة الذين يزورونني ولا أزورهم. لا يمكنني أن أتصور وسيلة للسفر أكثر متعة من السفر على صهوة حصان، غير السفر على الأقدام .. مثل كل المفكرين المشّائين طاليس وأفلاطون وفيثاغورس .. انطلق ساعة ما أشاء .. أتوقف ساعة أريد أن أنهض من وهدة إلى ربوة وأدور من خلف شجرة أعرج على عين ماء.. أمشي على هواي.. ! إنها الطبيعة والحرية والفردانية العذبة التي أفتقدها السودان الذي نصنع بأيدينا على وجهه جروح ودمامل الحروب والمسغبة والتقبيح. < اتفق الكثيرون على الموانع التي تفرمل الطريق صوب العظمة والأمجاد.. خمسة موانع.. الكسل والولع بالنساء واضمحلال الصحة والاشتياق الطاغي للوطن والإعجاب بالنفس.. فقلت إن علاجها ميسور فالكسل علاجه الخدر بعد رهق الإنجاز والولع بالنساء علاجه الحب للمرأة واضمحلال الصحة علاجه الطعام المقدور والحلال والرياضة وإخلاء القلب من البغضاء. والاشتياق إلى الوطن علاجه بفوائد التسفار الخمس والأوبة والتواصل.. والإعجاب بالنفس علاجه النقد الذاتي وحرق الغرور والرضى بالعمل والعلم والإيمان. < بعد تخرجنا في الجامعة افتقدنا صديقنا الظريف.. فقد كان يصر على زيارة خطيبته مرتين في اليوم، ولأنه كان يحب الشعر فقد قررنا مداواته بظرف الحريري القائل: لا تزرْ من تحب في كل شهر غير يوم ولا تزد عليه (واجتلاء) الهلال في الشهر يومٌ ثم لا تنظر العيون إليه قابلته قبل فترة في منتدى مسائي فذكّرته بالبيت وقد تكاثرت عليه الهموم والعيال والمطالب.. فقال لي ضاحكاً: (إننا في بيت واحد ورغم هذا فإننا لا نلتقي ولا مرة واحدة في الشهر كما أوصى الحريري). فضحكنا حتى ألهينا المنصة عن (هبابها) وحديثها المكرور. < لا نمانع أن يقيم اللواء الهادي بشرى (أمدرمان الأخرى) هناك.. ولكن بشرط أن يعيد النيل الأزرق سيرتها الأولى غابة وعسل ووازا وسلام وخلاوي وألوان بالتساوي ويلهب ذاكرة الحكاوي. < قال لي باكياً لماذا يغتصب هؤلاء الذئاب الطفلات بكل هذه النذالة والوحشية، فقلت له لأن المجتمع أهدر طفولتهم قديماً ولم يعلّمهم الفضيلة ولا العفة ولا الجمال ولا الإيمان ولا المكرمات فشبّوا وحوشاً في قمصان مخطّطة وسراويل من الجينز وقلوب من الصخر وعقول من الطين، ولم يقرأ عليهم الحكمة ولا الشعر ولا سمعوا بالسياب: عصافير أم صبية تمرحُ أم الماءُ: من صخرة ينضح فيخضلُّ عشبٌ وتندى زهور زهور ونور ويمامة تصدح من يُفهم الأرض أن الصغار يضيقون بالحفرة الباردة؟ إذا استنزلوها وشطّ المزار فمن يتبع الغيمة الشاردة؟ ويلهو بلقط المحار؟ ويعدو على ضفة الجدول؟ ويسطو على العش والبلبل ومن يتهجّى طوال النهار ومن يلثغ الراء في المكتب؟ ومن يرتمي فوق صدر الأب إذا عاد من كدّه المتعب؟ ومن يؤنس الأم في كل دار؟ أسى موجعٌُ أن يموت الصغار عزيزي السياب، الأطفال في بلادنا يموتون بالحر والحرب والجوع والجهل والمرض والتشرد والحمى الصفراء والاغتصاب. < إلى آخر طائرة وصلت الخليج بالأساتذة وآخر طائرة وصلت ليبيا بالأطباء، جوّدوا وأرفعوا الرؤوس عالية لتعودوا لشعب ما كان زاهداً في الطبشور والبنسلين وإذا غالبكم الدمع حنيناً فعليكم بأبيات بن الأحنف: يا غريب الدار عن وطنه مغرداً يبكى على سجنه ولقد زاد الفؤاد شجى طائر يبكي على فننه شفّه ما شفّني فبكى كلنا يبكي على سكنه < الأيام عند العرب أربعة: يوم الريح للنوم.. ويوم الغيم للصيد.. ويوم المطر للشرب.. ويوم الشمس للحوائج.. وهي أيضاً عند السودانيين أربعة: يوم الريح للكتاحة والمناحة.. ويوم الغيم لتذكّر الظلم والضيم ويوم المطر للفول والوتر ويوم الشمس للتراخي والقيلولة المفتوحة والشكوى من المدينة.. < شرحوا لي فكرتهم وكانت من أساسها (مضروبة).. وأرادوا أن أختار لهم شعاراً فكتبته، وقلت لهم إن شرطي الوحيد ألا تقرأوه إلا بعد مغادرتي.. وكان الشعار: (لا يلد النسر الحمامة). – قال لي: كيف يصنع سحاب الخريف (الدعاش)..؟ فقلت له حين يناجيها الراعي الفنان: أيتها الغمامة الدانية، يا نسيماً جديداً قادماً من بلاد جديدة عليه رداء من ندى.. وغلالة من حلم.. ومنديلاً حاكه الجن في لحظة بوح… أيتها الغصون والمروج السابحة طلاقة في الهواء… يا نفس البحيرات وروح البحار والأنهار.. انثري الطيب.. لا غير، وعبير الحشائش الشافية إلى حقول العادلين.. ما أروع علي المك حينما يترجم لهنري داڤيد ثورو.. ويقرأها بصوته المجلجل، ويأمر طلابه ليكتبوها بلغة وعقل جديد.. ودائماً ما كانت تخيب المحاولات ويتجاوزها الرجل الفنان وهو يقول بكل زهوه: جميل أيها المتمردون الصغار جميلة هذه المحاولة غير اليائسة!!.