البريدو مالو إتأخر بريدو ..؟
(أ) لعن اللهُ الهواتفَ السيارةَ وثورةَ الاتصالات» ..!!هكذا صاح صديق قديم، توكأ على منسأة السنوات الذابلة، وتحشرج في حنجرته صوت شجيٌّ وشجن عتيق!.. ثم رنا في استغراق نحو وجوه الناس في المدينة ولشجرة عجفاء انطفأ بريق أغصانها وماتت في عينيها الرغبات…. تتسلل شعاعات شمس الظهيرة الحارقة، في أيام شهر يوليو المطير، من بين قوارير السحاب، وتسيل أدمع النهار القائظ، مثلما سالت حبّات عرق عزيز على أذقان «العتالي» و«الشيالين» في سوق نيالا، وتختلط أصوات الباعة المتجولين وباعة الأرصفة الترابية عند مدخل سوق «أم دفسو»، ويتزاحم الناس في المكاس والبيع والشراء، وهدير لا ينقطع لرعد غضوب من اتجاه الشمال الشرقي للمدينة، وأصوات المروِّجين تتمازج مع صوت الأغاني في أماكن بيع المسجلات وأجهزة الراديو وشرائط الكاسيت، ومن وراء ذلك في الناحية الغربية عند مدخل سوق أم دفسو تعبق رائحة المانجو والبرتقال أب صرة القادم من جبل مرة المكان. «ب» في آخر سنة من عقد السبعينيات وبداية عقد الثمانينيات، من القرن الماضي، كنّا ونحن في المرحلة المتوسطة بمدينة نيالا، نعبُر من مدخل سوق أم دفسو متجهين إلى الجزء الجنوبي من السوق الكبير، ثم نعبر غرباً عبْر ممر ضيِّق فيه رواكيب بسيطة وصغيرة معروشة على عجل ببروش من السعف و«الشراقني» بهت لونها حتى صار أقرب للرمادي الداكن بعد أن سحقتها الأيام والسنوات والمطر، يجلس تحت الرواكيب رجال من أعمار مختلفة على مناضد بعضها مصنوع من حديد البراميل القديمة أو الصاج بأرجل من خشب رديء، يبيعون طوابع البريد ويكتبون العرضحالات وشكاوى المحاكم أوالرسائل لمن لا يعرف الكتابة والقراءة أو يكتبون نصوص التلغرافات السريعة لمن يطلب، نقفز فوق مسيل ماء صغير متعرِّج ملتوٍ كأفعى، ومنه لممر أضيق منه، حيث مكتب مصلحة البريد والبرق وتلتمع اللافتة بلونها الأزرق الداكن «بوستة نيالا»، يفتح المكتب عبر بابين واسعين وباب صغير إلى الجهة الجنوبية على ممر عرضه متران ونصف، يتكون مكتب البوستة هذا من طبقة واحدة، أصفر الطلاء واللون، أبواب خضراء مزودة بسياج حديدي منزلق، وهو من صالة كبيرة لخدمة المواطنين عليها أكثر من نافذة للخدمة ومكاتب موظفين: فؤاد فريد ورحمة، توجد مكاتب ملحقة بهذه الصالة مخصصة لمدير المصلحة «حسن عبد الحليم بوستة» وهو من ظرفاء المدينة في نيالا وكبار الموظفين معه، وفي الركن الجنوبي الشرقي مكتب ضخم مخصص لصناديق البريد، ويفتح مدخله من الناحية الشرقية لأصحاب الصناديق… وتجد في ركن قصيٍّ العجلة الهوائية لأشهر ساعي بريد في دارفور«عمك آدم».. وعلّق في العجلة حقيبته الجلدية التي يوزِّع منها الرسائل والتلغرافات، وهي شاهدة على تواصل الناس ومشاعرهم. «ت» ندلف للداخل للصالة الفسيحة وهي مرتبة منظمة نظاماً، وكنّا من هواة المراسلة، نراسل أصدقاء من عالم موجود ولا مرئي، بعضهم في صفحات التعارف في المجلات البيروتية التي كانت تصل نيالا، أو نراسل ونكتب لأصدقاء دراسة غادروا المدينة مع أسرهم وكثير منهم من مناطق السودان المختلفة يأتون مع ذويهم وآبائهم الموظفين في كشوفات النقل التي كانت تشمل كل موظفي الخدمة المدنية والعسكرية في السودان. كان في الصالة موظف هادئ الملامح في سني عمره الغض في العشرينيات نعرفه جيداً وهو حارس مرمى هلال نيالا آنئذٍ وعازف الفلوت المشهور في بداياته الفنية الموسيقار «حافظ عبد الرحمن مختار» وهو موظف بريد عتيق وعريق، ربما يكون هناك سر غامض في علاقة أهل الفن والأدب والغناء والموسيقا بالبريد من خليل فرح وعبيد حاج الأمين ومصطفى سند ومحمد يوسف موسى وإبراهيم الرشيد، مثلما لأهل الفقه والعلم والصلاح مثل الشيخ محمد هاشم الهدية ـ رحمه الله ـ مؤسس جماعة أنصار السنة. تجد عدداً من الناس يلصقون الطوابع على خطابات مرسلة إلى عالم بعيد ومدن تنام وتصحو، ربما لأسرة أو صديق أو حبيب أو رسالة عمل أو تحتوي على أوراق ثبوتية أو شهادات، ثم ترمى الخطابات إلى الصندوق العجيب عبر فتحته الرقيقة، فيتملك الإنسان شعور غريب فلحظة إلقاء الخطاب في الصندوق تحس كأن الخطاب الذي قد يستغرق وصوله أياماً وأسابيع قد وصل لحظة إلقائه.. وهذا سحر للبريد والرسائل ذهب في غيهب الزمن ..!! «ث» يقابلنا حافظ بسمته الهادئ، والصالة تشبه خلية نحل تعمل بسرعة وفي صمت لا يقطعها إلا صوت أجهزة التلغراف ونقرات الموظف السريعة وهو يرسل برقية، إما بخبر وفاة أو ولادة أو زواج أو غيره من الأخبار الاجتماعية السريعة أو تحويل مبلغ مالي. وهنا لابد من ذكر حديث طريف وظريف، للراحل الأستاذ الكبير آدم عيسى البنجاوي أحد أعلام مدينة الفاشر وهو كاتب قصة ومسرح وشاعر وقاص له مواهب متعددة، كتب مسرحية صغيرة عن محو الأمية في دارفور بداية السنوات الثمانين أو في نهاياتها من القرن الماضي، يحكي فيها عن برقية تلغرافية وصلت لرجل في بلدة نائية بدارفور، ولم يجد من يقرأها له إلا رجلاً بائس التعليم من رجال القرية.. ولما كان القارئ لا يجيد القراءة جيداً قرأ له النص كالآتي: «رقبة التور وقعت بينا» وهنا هاج الناس وماجوا في البلدة أن وقوع «رقبة» و«تور» تعني قتلاً وموتاً غيلة، وأنه ربما يكون هناك ثأر أو ديّة وبكت بعض النسوة على مظنة أن البرقية هي برقية موت وخراب ديار… لكن في تلك الأثناء وصل طالب في الوسطى من أبناء البلدة ووجد القوم في حيرة، ونحيب النساء وخوفهن يسيطر على الموقف، فأخذ البرقية ليقرأها، فانفجر ضاحكاً وقرأ لهم بصوت عالٍ وهو يقول: يا جماعة أسمعوا البرقية فيها: «رقية النور وضعت بنتاً».. «ج» ونتحول من صالة البريد، إلى المدخل الشرقي حيث توجد صناديق البريد، ولدينا صندوق بريد لا ينسى أبداً، وهو صندوق بريد رقم «96» ويخص أسرة صديقنا وزميلنا علي عبد الرحمن علي مدير شركة توزيع الكهرباء الحالي، وكانت كل مراسلاتنا عبره، ونتلهّف ويمتلكنا شعور وإحساس جارف وعنيف لا حدّ له ولا واصفَ لمداه، عندما يخرج صديقنا علي مفتاح الصندوق ويفتحه، فتنهمر الرسائل والخطابات القادمة من العالم البعيد والمدن المختلفة في أصقاع السودان من أهل وأصدقاء وأحباب… ونتخاطفها ونأخذ نسخاً من مجلة «هنا لندن» التي كانت ترسل لنا مجاناً وقد سعى صديقنا المثقف ياسر الطيب مدني لترتيب اشتراكنا في المجلة اللندنية…. كانت الرسائل والكتابات دنيا لا حدود لها وعالماً لا متناهي من المشاعر والإحساسات النبيلة والأشجان، فيه قناديل الذكريات ودفق الأفئدة وجمال الصلات الطيبة والتواصل بين البشر في أسمى درجاته وسموه العجيب، وكانت الطوابع أشكالها وبلدانها وأحجامها، عالم بديع وفسيح وثقافة عظيمة نجمعها ونرتبها في دفاتر خاصة نتباهى بها كهواية وفن وعلامة تحضر.. ولم نكن نظن في تلك الأيام أن العالم حولنا لا نافذة إليه إلا هذا المبنى الساحر المدهش، كل ما في دواخلنا وما نحمله لغيرنا من ودٍّ وحبٍّ وإحساس تحمله منا إلى الآخرين هذه البوستة ومكتبها الغائر في قلب المدينة، كم أودع الناس في كل مكاتب البوستة في العالم وفي بلدنا السودان من مداد وكلمات ورسائل فيها الدموع والشكوى والصدق والنصيحة والأخبار وشفافية الروح وفيها القاسي من الكلمات وخطابات الطلاق والتلغرافات الحزينة، وربما يكون صدى الكلمات ما يزال والزغاريد والأغنيات والأحرف النديّات التي تحملها لم تزل تضيء في فجوات العمر والزمن الخضيل… «ح» كانت البوستة هي ذاكرة السودان ونبضه وموضع تعابير أهله الجزلة ومواجدهم الكبار وأحزانهم الأكبر… ربما يكون هذا المبنى العتيق القديم في نيالا، قد أزيل أو هدم أو لا يزال باقياً في مكانه وربما يكون قد هجره الناس بعد انقضاء مهامه مع تطور التكنولوجيا في عالم الاتصالات، واستعاض الناس عن الرسائل التي كانت تسافر لأيام وأسابيع وشهور، بالرسائل المعلبة عبر الهواتف السيارة التي تصل في ثوان معدودات لكنها بلا طعم ولا مذاق ولا عبير لا شجن ولا صدق، كانت رسائل البريد بعضها معطر بعطر حبيب موله مشتاق وبعضها مزخرف ملون في ورق موشى برسم الأزاهر والورود.. غير رسائل الهواتف الجوالة التي تشبه زهرة البلاستيك بلا ندىً ولا طيب ولا أريج، وقراءتها والتعامل معها مثل الذي يأكل الطبشور …! لمَ الشاعر العربي محمد الثبيتي ينتظر شجناً أحنَّ من هذا الشجن: صدِئت لياليك القديمة فاحرقي خَبَثَ النحاسِ وأشرعي زمن الصهيلْ مذ أهدرتك موانئ البحر القديمِ وأرمدت عينيك منزلةُ الهلالْ وقف السؤالْ غمرتْ جنوبَ الشمس غاشيةُ الشمالْ مذ كنتِ خاتمة النساء المبهماتْ يبست عيون الطير واشتعلت حشاشات الرمادْ إن قام ماء البحرْ .! يأتي وجهك النامي على شفق البلادْ يأتي طليقاً، موثقاً بالريح والريحان والصوت المدججِ بالجيادْ إن قام ماء البحرْ .! صاغ الرمل بين مقاطع الجوزاءِ مُهراً عَيطموساً فاتحاً من قمة الأعراف ممتدٌ….. إلى ذات العمادْ وكانت الرسائل التي تصلنا بطائرة سودانير التي كانت تسمى في ذاك الزمان بطائرة البوستة هي إما «داكوتا أو فوكرز50»، أو تصل بقطار نيالا الذي يقطع الفيافي وفيه مكان مخصص للبوستة في عربة الفرملة التي يوجد فيها مكتب بريد بطوابعه وصندوق مخصص لرمي الرسائل. «خ» لا تنفع الذكرى كثيراً إذا يبست عيون الطير وتكومت في القلب سافية الرماد، لكن البوستة والبريد في السودان يشبه لحد بعيد ما كان في العالم أجمع، ولماذا تتذكر السينما الأمريكية ساعي البريد وتنتج فلماً عظيماً للمثل المخرج «كيفين كوسنير» باسم «ساعي البريد» يحكي عن قصة ساعي بريد وحّد أمريكا بعد الدمار والحروب التي مزقتها عبر المشاعر التي حملتها الرسائل وعانى من المخاطر والأهوال في مهمة مقدسة هي توصيل الرسائل.. ولا يتذكر أحد رجلاً أعظم منه وهو أول ساعي بريد سوداني عاش في القرن التاسع عشر الميلادي وكان من أشجع وأنبل ساعي بريد في التاريخ، لما وجده من خطر وما جابهه في سبيل توصيل الرسائل في الفترة التركية قبيل اندلاع الثورة المهدية، الشاعر الكبير والساعي الأكبر «إبراهيم ود الفراش» وبعيره «الباقير» وهو الرجل الذي ظهر في أول طابع بريد سوداني وجّه برسمه كتشنر عند احتلاله بلدنا وأمر رسّامه إدوارد ستانتون، فرسم ود الفراش على ظهر بعيره وتظهر حقيبته التي كتب عليها بريد بربر… يا إلهي!.. تلك الأيام…. كما كتب كامل محجوب ..!!