وهمة الأخبار والإثارة!!
قبل عدة سنوات انفجرت في الصحافة السودانية مَوجة مُتابعات لكشوفات مرتبات الدستوريين.. وتمتّع مجتمع العاصمة بـ(فيلم بوليسي) مُثير فيه مرتبات الولاة ورئيس البرلمان (آنذاك).. وآخرين..
كتبت حينها هنا في عمود “حديث المدينة” ونبّهت الزملاء في الصحافة أن ينتبهوا للفخ المنصوب بإحكام.. فالمرتبات والأجور الأخرى ليست من ظواهر الفساد مهما سمقت في سماء بعيدة.. فهي مكتوبة في كشوفات.. والفساد في العادة لا يُكتب في كشوفات المرتبات..!!
الآن أجدني في حاجة لتكرار ذلك التنبيه للصحافة.. ففي ولاية الجزيرة دراما صراع بين النواب والوالي.. وفي ولاية البحر الأحمر يعرض آخر أفلام (الأكشن) سحب الثقة من وزير.. الوالي يرد الصاع صاعين ويطيح بوزير المالية.. وفي نهر النيل والٍ مُقال.. أعقبه والٍ جديد بعد فترة انتظار هي نفسها جُزءٌ من الإثارة.
كل هذه الدراما والأفلام المُثيرة المعروضة في مُختلف دُور العرض في العاصمة والولايات هي مُجرّد (تسلية على الهواء) حتى لا يشعر الشعب بالملل من فرط جمود الحال الذي لا تَتَغَيّر فيه إلاّ أسعار السلع المنطلقة كالصاروخ في فضاءٍ بلا حُدودٍ..
انشغال الصحافة بهذه الأفلام يُساعد في زيادة الضباب حول المشكلة الأساسية التي يجب أن نُركِّز عليها كلنا حتى لا نهوى في قاع سحيق دون أن ننتبه..
نحن.. سادتي.. نُكابد أزمة اقتصادية حقيقية تتفاقم كل يوم.. ليست أزمة دولار ولا أسعار كما يتصوّر البعض.. بل هي أزمة سُقوط كامل في مُستنقع العطالة الإنتاجية.. انكماش وتجمد وتآكل البنية الإنتاجية وتوقف دوران عجلة التجارة والأعمال..
مثل هذا الوضع خطرٌ للغاية لأنّه أشبه بالغوص في الوحل.. تدريجياً ستغطينا طبقة الأوحال حتى رؤوسنا.. وحينها يصعب بل يستحيل الخُروج بلا خسائر جسيمة..
الأزمة الاقتصادية هي مُجرّد أعراض المرض (السياسي) الذي نكابده.. الحكومة – على أقل من مهلها – تَتَدَبّر أمر التسوية السِّياسيَّة عبر قطار الحوار الوطني الذي يتحرّك خطوة ويرجع خطوتين.. وتظن الحكومة أنّها كلما أبعدت شبح مُشاركتها لآخرين في السلطة تكسب الزمن والنتيجة معاً.. لكن هذا وَهمٌ مُركّبٌ… فاللاعب الأساسي في الميدان الآن ليس المعارضة داخلية أو خارجية.. بل هو (التآكل) الذاتي الخطير في الدولة وانهيار مقوماتها الإنتاجية.. وذبولها المُتواصل..
فلئن أفلتت الحكومة من مهدّدات المعارضة فلن تلفت من مهدّدات (الزمن).. والزمن يلعب لغير صالح الحكومة وحزبها الحاكم مهما تصوّرت غير ذلك.. أشبه بمن يركب في مركب يجرفها التيار نحو الشلال حتى إذا ما شارفته أصبح من غير المُمكن كبح جماح الاندفاع نحو الهاوية..
حينها ستغني الحكومة مع عبد الحليم (إنِّي أغرق.. أغرق..)..
حزب المؤتمر الوطني.. هو الآن أقوى أحزاب المُعارضة..!! وسيأكل نفسه بنفسه..!!