هل تكمن الراحة في أن تكون وحيدا؟
أُطلق في نوفمبر/تشرين الأول الماضي استبيان إلكتروني بعنوان “اختبار الراحة”، للبحث في معنى الراحة بالنسبة للأفراد، وكيف يحبون الوصول إليها، وما إذا كان هناك رابط بين الراحة والحالة الصحية. وجمع القائمون على البحث النتائج، وبدأت عملية تحليلها.
قد يبدو تعريف الراحة أمرا سهلا، لكن تبين أن الأمر أبعد ما يكون عن البساطة. هل هي راحة العقل أم الجسد؟ في الواقع، الأمر يختلف، فبالنسبة للبعض لا يرتاح العقل بدون راحة الجسد، والعكس بالنسبة لآخرين. وقد يكون إنهاك الجسد من خلال تمرينات قاسية هو السبيل لراحة العقل، إذ قال 16 في المئة من المشاركين إنهم يعتبرون التمرينات الرياضية مريحة.
وشارك في البحث 18 ألف شخص، من 134، وهو استبيان مطول تقوم عليه مجموعة دولية من الأكاديميين والفنانين والشعراء وخبراء الصحة العقلية، الأمر الذي يظهر الأهمية الملحة للراحة في العصر الحديث.
وقال ما يزيد على ثلثي المشاركين إنهم بحاجة للمزيد من الراحة. كما قال حوالي ثلث المشاركين إنهم بحاجة للراحة أكثر من الأفراد العاديين، في حين يرى عشرة في المئة أنهم بحاجة إلى راحة أقل من المتوسط.
واختبر أحد الأسئلة مقدار الراحة التي حصل عليها المشاركون في اليوم السابق على الاستبيان، مع حرية تعريف معنى الراحة بالطريقة التي يريدونها. وتباينت الإجابات ما بين ثلاثة ساعات وستة دقائق.
وتضمن سؤال آخر قائمة من الأنشطة، وطُلب من المشاركين اختيار الثلاثة الأكثر راحة. وجاءت النتيجة غير متوقعة، ففي المركز الأول كانت القراءة، ويليها التواجُد في بيئة طبيعية، ثم الوحدة، ثم الاستماع للموسيقى، وأخيرا عدم القيام بأي نشاط محدد.
والأمر المدهش في هذه النتائج هو أن كل هذه الأنشطة تكون فردية. فهل يكون اعتزال الناس هو كل ما نريده حقنا لنرتاح؟
وكل الأنشطة الاجتماعية، مثل الالتقاء بالأصدقاء والعائلة، والتحدث مع الناس، أو احتساء المشروبات مع الآخرين، جاءت في ذيل قائمة الأنشطة المريحة. ولا يعني ذلك بالضرورة أن المشاركين ليسوا اجتماعيين، ولكنهم لا يعتبرون أن الأنشطة الاجتماعية على وجه التحديد مريحة.
والأمر المدهش أن هذه النتائج يتساوى فيها الاجتماعيون، الذين يُعرفهم العلم بأنهم يستمدون الطاقة من الاختلاط بالآخرين، والانطوائيون، الذين يعتبرون الاختلاط بالآخرين أمر مجهد. الفارق الوحيد هو أن الاجتماعيين وضعوا المحادثات والأنشطة الاجتماعية في مرتبة أعلى، لكنهم مع ذلك يكرهون الأنشطة المنفردة.
وبالطبع يجب الأخذ في الاعتبار أن اختيار الوحدة يختلف عن الإجبار عليها.
ويمكن تفسير اختيار الناس للوحدة من خلال الإجابات الواردة في الاستبيان عما يجول بخاطر المشاركين وهم يقومون بالأنشطة المختلفة.
ويقول بِن ألدرسون-داي، أخصائي نفسي بجامعة دورام الإنجليزية، وأحد المشاركين في كتابة البحث، إن “المشاركين قالوا إنهم يركزون على ما يشعرون به، وأجسامهم، مشاعرهم عندما يكونوا وحدهم”.
ويبدو أن فرضية تواصل الناس مع أذهانهم وأفكارهم وهم منفردون ليست صحيحة بشكل مطلق، فبحسب ألدرسون-داي “يقول المشاركون إنهم يتحدثون إلى أنفسهم 30 في المئة فقط من الوقت. وهي إشارة إلى أن الوحدة لا تعني فقط قطع الاتصال بالناس، ولكن تتسني الفرصة لقطع الحوار الداخلي أيضا”.
لكن الوحدة وعدم القيام بأي نشاط لا تعني بالضرورة أن المخ يكون في حالة راحة. وافترض علماء الأعصاب أن المخ يكون أقل نشاطا في حالة عدم التركيز على إنجاز أية مهام. لكن الأبحاث التي أُجريت في نهاية القرن العشرين، والتي شملت عمليات مسح المخ، خرجت بنتائج مذهلة أثبتت خطأ الفرضية السابقة.
وفي أوقات الراحة، والتي يُفترض عدم القيام بأية أنشطة أثناءها، تميل عقولنا للتساؤل والتفكير. ويكون المخ أكثر نشاطا في فترات عدم التركيز على إنجاز مهام، عنه أثناء القيام بمهام محددة.
وتتكرر شكوى عدم القدرة على إيجاد وقت للراحة مؤخرا. فماذا لو لم نجد الوقت الكافي للقيام بالأنشطة الباعثة على الراحة، هل يهم الأمر؟
هذه فرضية ممكنة.
وأظهر الاختبار أن من حصلوا على ساعات قليلة للراحة في اليوم السابق للاستبيان سجلوا مستويات أقل في الجزء الخاص بالصحة العامة.
وتتضاعف مستويات الصحة العامة لدى من لا يشعرون بالحاجة للمزيد من الراحة، في مقابل من يشعرون بالحاجة للمزيد منها، مما يعني أن فكرة الأشخاص عن الراحة بنفس أهميتها في الحقيقة. فإذا لم نشعر بالراحة، تقل الصحة العامة.
والأفراد الذين سجلوا أعلى درجات الصحة العامة حصلوا على ما بين خمس وست ساعات من الراحة في اليوم السابق لإجراء الاستبيان. وحال حصولهم على المزيد من الراحة، بدأت نتائج الصحة العامة في الهبوط. فهل تشير هذه النتائج إلى أن الراحة الإجبارية، مثل حالات البطالة أو المرض، لها تأثير مشابه لغياب الراحة على الصحة العامة؟ ربما يكون خمس إلى ست ساعات هو المعدل المثالي للراحة.
ورغم العينة الكبيرة التي يشملها هذا البحث، إلا أنه يظل محدودا بفترة معينة. ولا يمكن الجزم بأن الراحة أو غيابها لها تأثير على الصحة العامة. فهل يمكن مثلا القول بأن النتائج المرتفعة للصحة العامة تجعلنا نشعر بالراحة؟ لكن تظل العلاقة بين الراحة والصحة العامة مدهشة.
وتجدر الإشارة إلى أنه بالسؤال على الكلمات المرتبطة بالراحة، اختار تسعة في المئة من المشاركين كلمات “الذنب” أو “باعثة على التوتر”. بالفعل تبدو الراحة سببا لقلق البعض بشأن الأشياء التي لا يفعلونها.
وتقول فيليسيتي كالارد، الأستاذة بجامعة دورام: “نحتاج بشدة لمقاومة فرضية أن الحصول على قدر أكبر من الراحة يكون مرادفا للمزيد من الكسل. فحقيقة أن من يحصلون على المزيد من الراحة تكون صحتهم العامة أفضل، دليل قوي على الحاجة إلى الراحة.”
فمن يحصل على أكبر قدر من الراحة؟ يشير الاستبيان إلى أن أقل الناس راحة هم الأصغر سنا، الذين يعملون في وظائف بدوام كامل، أو الورديات التي تتضمن العمل ليلا. كما كانوا الأعلى دخلا، أو من يعولون. أما من يحصلون على أكبر قدر من الراحة فكانوا الأكبر سنا ممن يحصلون على دخول أقل، والعاطلين عن العمل، والمتقاعدين، أو من يعملون في ورديات مقسمة، بحيث يعملون لبضع ساعات، ثم يحصلون على وقت حر، ثم يعودون في آخر اليوم أو في المساء.
وكان الرجال أكثر من قالوا إنهم يحصلون على عدد ساعات من الراحة أقل من المتوسط، وإن كانوا حصلوا على عشرة دقائق من الراحة أكثر من النساء، وذلك في اليوم السابق للاستبيان.
ومرة أخرى تتجلى أهمية الفكرة المتصورة عن الراحة. فالمسؤوليات أصبحت موضع فخر في المجتمعات المعاصرة. والانشغال أصبح مرادفا لاحتياج الآخرين للفرد وأهميته. وعن سماع سؤال “كيف حالك؟” وإجابته بـ”مشغول كثيرا”، ما تأثير مثل هذه الإجابة على حالة الفرد؟ وهل يميل أصحاب الدخول الأعلى إلى القول بأنهم أكثر انشغالا؟ أم أنهم يعملون في وظائف تستخدم التكنولوجيا الحديثة بحيث تتلاشى الحواجز بين العمل والراحة، ويشعرون بعدم القدرة على الانفصال تماما عن بيئة العمل؟
وثمة سؤال آخر تضفي إجابته المزيد من ملامح الفهم، فمن بين الأسئلة كان مدى قناعة المشاركين بأن الراحة مضادة للعمل. وأجاب أكثر من يعملون في وظائف بدوام كامل أن الراحة مضادة للعمل، لكن من يعملون في مشروعاتهم الخاصة أو في مهام تطوعية لم يشاركوا نفس الفكرة. فهل يمكن أن يكون وجود سيطرة على العمل له تأثير على الإحساس بالراحة، حتى وإن كان الشخص يستمتع بعمله؟
ومن المقرر أن يُنشر تحليل كامل للبيانات المجمعة في الاستبيان خلال العام المقبل. ومن الواضح أن به دروس للأطباء، إذ تشير كالارد أن فهم فكرة الراحة التي يوصي بها الاطباء يختلف من شخص لآخر. “وثمة حاجة لأن يكون الأطباء أكثر وضوحا بشأن ما يعنية الطبيب بكلمة الراحة عندما يوصي بها. ويجب اكتشاف ما يعتبره الشخص مريحا. وأحيانا يكون القول للمريض بألا يفعل شيئا دافعا للتوتر بدلا من الراحة.”
ويبدو أن الكثير من الناس يريدون المزيد من أوقات الراحة، لكن ربما الأمر لا يتعلق بعدد ساعات الراحة أو العمل، بقدر ما يتعلق بأنماط العمل، وأنماط الراحة، وعامل الوقت بصحبة الآخرين أو بمعزل عنهم.
وإذا كنا نريد الشعور بالراحة حقا، هل نريد وقتا وحدنا دون تدخل من أحد، بصحبة أفكارنا وفقط؟ يبدو أن اختبار الراحة يثبت ذلك.
BBC