الصادق الرزيقي

تمهَّل في وداعي ..

في الهزيع الأخير من العام 1986م، لم تكن الصحافة السودانية مثل جبة الدرويش، مرقعة ..ملونة.. مزركشة عليها رياش الزمن العربيد كما هي الآن، كانت قطعة من فسفور يشع بالجمال والبهاء، تختال في بلاطها كما الطاؤوس في إيوانه والكنار في أفنانه، وكانت عروس السفائن المحملة بالعبير والحقيقة ساعتئذ ،هي صحيفة (ألوان) لمالكها وناشرها وفارسها الأول الأستاذ حسين خوجلي .. > عندما دلفنا الباب لأول مرة إلى بهو ودهليز وصالات هذه المهنة التي امتصت رحيق شبابنا وأعمارنا الغضة، وكنا يومها يافعين صغار . في شتاء ذاك العام قبل ثلاثين سنة، جلسنا عند مقعد قصي في مدرسة حسين خوجلي الصحافية، وما أدراك ما (ألوان) يومها، سهم برته الشجاعة الطاغية لصاحبها ومن معه، ونصل من حق مر صقيلاً على مسنة حداد حاذق لماح، وكانت الشقة الصغيرة في عمارة كشة بشارع الجمهورية ثم عمارة جوزيف زكي بشارع الحرية ومكتب الأستاذ حسين بعمارة الفيحاء، تتزاحم عند الأبواب والممرات والصالات الصحافية، أسماء وأقلام كبيرة قلّ أن تجدها اليوم، من الصحافيين الإسلاميين الكبار، أمين حسن عمر، والمحبوب عبد السلام، ومحمد عوض البارودي، و بابكر حنين، ومحمد محجوب هرون، وماجد يوسف، وعادل الباز، وعلي السنجك، وعمر عبد القادر، ومحمد وقيع الله، وعلي يس ، وعبد الإله أبو سن، وغيرهم من الرموز الكبيرة التي كانت تأتي وتكتب لعلاقتها بصاحب الجريدة التي ملأت الدنيا يومها وشغلت الناس كما قلت، ابن جني عن المتنبي . حيث كان يضحك بصفاء داخل أروقة مقر الصحيفة قلب محمود ابو العزائم ورحمي سليمان ويطرق إطراقة زاهية ذات خطرات محمد الخليفة طه الريفي وكان تلميذيهما صلاح التوم من الله وحسن أدروب يتقاسمان ما يبقى على مائدة الكلام من فتات المرويات والأقاصيص والحكايات ليصنعا منها القصص الصحافية المنوعة ويحيكان جبة الأعراف والتقاليد للمبتدئين أمثالنا ونحن عراة من التجربة، عِطاشى للتقاليد المهنية الراقية . > كان حسين خوجلي وسط كل هذا الخليط والمزيج العجيب، يجلس هناك كملك متوج يبتسم للدنيا والناس وهو في مطلع سنواته الثلاثين نضوا كسيف ، ويكتب أروع مقالاته وأشدها وطأة عن الواقع السياسي وسقطات الطائفية السياسية وهو جالس على منضدة بسيطة، ما بين ضاحك مع هذا وساخط من ذاك، والأحرف تنسال من يراعه كما النفح من الوردة، والشعاع من الشمس، والزبد من الحليب، والشهد من إبر النحل ..! > كانت صورة رئيس التحرير يومها لديَّ ولدى زملائي وأترابي في عالم الصحافة يومئذ (وليد مصطفى، ونوال قاسم، وأشرف خليل شريف، وآمنة إدر، وجمال شريف، وحاتم محجوب ، وياسر محجوب، ومجدي عبد العزيز الفكي، ثم بعد عام خالد فتح الرحمن) ، هي لوحة فوق الواقع …سيريالية غامضة كأنها رسمتها ريشة (سلفادور دالي) او لوحة تنتمي للمدرسة التكعيبية كــ(الجيرونيكا) لبابلو بيكاسو، أو هي تأملات موغلة في الترميز للسهرودي او المحاسبي او قطعة عرفانية للشيرازي وابن الفارض، حيث كان حسين كأول رئيس تحرير نعمل معه ونتقرب منه رغم بساطته وسهله الممتنع، يبدو تجميعاً لصور مجزأة من خيالات صحافيين صغار كل طموحاتهم في تلك الأيام أن يروا أسماءهم مكتوبة في مدخل خبر او صورهم مصحوبة بمقالاتهم البكر!.. > لكن حسيناً ..رسَّخ تلك الحالة الباهرة لبساطة الصحافة وقوتها، ولقيمة الكلمة وسطوتها ، ولمكانة الصحافي وجوهره ، ثم مظهره ومخبره ، ولقيمة الحقيقة وسطوعها، بشعلتها وقناديلها وشموعها ، إلمامه وثقافته الواسعة وحسه السياسي المتقدم ، استطاع حسين أن يقود أضخم تجربة صحافية ذات تأثير في الحياة السياسية والأدبية والاجتماعية، وأن تنتج مدرسته وتخرج على الأقل 80% من قادة العمل الصحافي الموجودين الآن، فهو مدرسة فريدة في تعاملاتها وطرق تدريسها وطبيعة اختيار طلابها ، ويحسب له أن أرسى تجربة في مجال الصحافة مهما اختلف الناس حولها ستبقى جيناتها لأجيال قادمة عديدة قد لا تنتهي إلا بنهاية مهنة الصحافة في السودان . > أما كون حسين خوجلي بطوعه واختياره يتنازل عن رئاسة التحرير وهي أول وآخر مهنة يعمل فيها، خالطت دمامه ومشاشه ولم يعرف غيرها ، فلهو أمر جلل ، فهو لم يعبر مثل الصحافيين على سلالم المهنة من محرر مبتدئ صغير ثم محرر وترقى لكبير محررين و رئيس قسم ثم سكرتير للتحرير ومدير تحرير ، بالرغم من أنه تلقى تدريباً قصيراً في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي في صحيفة الأيام ، فقد هبط على منصب رئيس التحرير من علٍ محملاً بتجربته الخاصة الواسعة وقدراته الذهنية المهولة وحسه الصحافي الفطري وممارسته الطويلة للصحافة الجامعية التي صبغت تجربته ولم تزل . > إن يستأذن حسين بالانصراف من موقعه ، مفسحاً مكانه الذي مكث فيه طويلاً في (ألوان) لأخيه الأصغر الاستاذ محمد الفاتح أحمد ، فذلك خبر وأي خبر .. فالصحافيون الكبار مثل النجوم في مداراتها تحوم حولهم الكواكب ويدور معهم التوابع لكنهم قل أن ينصرفون ، استأذن محمد حسنين هيكل في حينه بالانصراف وأعلن تركه الكتابة الصحافية، لكنه ريثما تجف أحبار قراره عاد للكتابة .. > لكن حسين لم يذهب (عفو الخاطر)، (بقايا مداد) من نفثات يراعه باقية .. فاثنين وثلاثين عاما ًمن الثبات على مهنة حارقة و معذبة ومهلكة أنتجت كل هذه الفيسفساء المدهشة من الأحرف والتلاميذ والحواريين .. وهل يظن حسين خوجلي أن الأثير والشاشات البلورية ستكون أزهي وأنضر من سود الصحائف وبهاء الكلمة المكتوبة .. يا حسين: لا مهرب لك

الانتياهة