عثمان ميرغني

تحويل رصيد


بالله تمعنوا في هذه الآية الكريمة من سورة البقرة (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
لاحظ ارتباط (الصبر) بـ(الإفراغ).. وارتباط (الأقدام) بـ(الثبات)..
هل تذكرون ما قلته لكم في عمود سابق عن الآية الكريمة (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)..
في هذه الآية (الفراغ) ارتبط بـ(الفؤاد).. و(القلب) بـ(الربط).
إذا كان الفعل المرتبط بـ(الصبر) هو في وصفه الفني الدقيق عملية (إفراغ) فيعني ذلك أن (الصبر) ليس قيمة منزلة من الفراغ.. بل هو قيمة محولة..
لفهم كيف يفرغ الصبر راجع الآيات التي تتحدث عن وسائل أخرى ذكرها القرآن لـ(إفراغ) الصبر في النفوس.. مثلاً (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ), وجاء فيء القرآن في أكثر من موضع أن الله أمد المسلمين في معاركهم الحربية ببضعة آلاف من الملائكة (مسومين).. ألم يكن يكفي (ملك واحد) لمواجهة كل جيش الكفار!
الوحدات العددية هنا ليست إحصاء لعدد الملائكة بالمعنى الحرفي.. هي وحدة قياس لحجم الصبر الذي أفرغ في قلوب مقاتلي جيش المسلمين.. تماماً مثلما نستخدم في لغة العصر (الحصان) للتعبير عن قوة الماكينة.. فالماكينة التي قوتها (عشرة أحصنة) لا تعني أن بداخلها هذا العدد من الأحصنة.
والدليل على كون (عدد الملائكة) هو حساب معنوي.. تكملة الآية (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).. هو مجرد بشرى.. أي حافز معنوي ملهم للقوة والصبر.
فريق كرة القدم الذي يلعب وسط جمهوره.. التشجيع الداوي الحماسي (يفرغ) الصبر في نفوس اللاعبين ويثبت أقدامهم.. فيفيض عطاؤهم ويزداد بأسهم.
زغاريد النساء تشحذ همة الرجال.. وتساعد على إفراغ الصبر في نفوسهم.. لكن الرجل (الجبان) لن تفيده الزغاريد ولا التشجيع.. فليس هناك رصيد لـ(الإفراغ)..
الصبر دائماً هو قيمة مرتبطة برصيد محول من وعاء إلى وعاء.. عملية (إفراغ) تماماً مثلما ترسم هذه الآية معنى الإفراغ (آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) إفراغ من إناء إلى إناء.
رجل مؤمن بالله ومثابر على الطاعات يلازم المسجد كل الأوقات.. لكن في ساعة المصيبة ينهار من هول الجزع.. هو في حاجة أن (يفرغ) الله عليه صبراً.. حتى يثبت.. تحويل (سعرات) الإيمان في نفسه إلى طاقة معنوية عالية تناهض الحزن واليأس والانهزام النفسي.
(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)
لكن المصيبة الحقة.. هي في من لا يملك (الرصيد) الكافي للتحويل.. لـ(إفراغ) الصبر عليه.
كل هذه المعاني أجمعها لنعود بها لتفسيري الذي ذكرته لكم للآية (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) لاحظ (فراغ) الفؤاد.. و(إفراغ) الصبر..
(إفراغ) الصبر في (فراغ) الفؤاد.. فالفؤاد هو الماعون – الافتراضي- الذي يتحول إلى (فراغ) في لحظة المصيبة الكبرى.. فيحتاج إلى (إفراغ) الصبر عليه لتثبيت الأقدام أو ربط القلوب (لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا).

وتذكر دائماً ما قلته لكم أن (الفؤاد) هو مجمع المعلومات التي تلتقطها حواس الإنسان.. بينما القلب هو البرمجيات (Software) المتحكمة في الحركة والسكون عند الإنسان.

التيار