عثمان ميرغني

جريمة (أمن الدولة)!!


الذي يقرأ القرءان بقلبه.. يستمتع بجمال التصوير الفني فيه.. بالتحديد أقصد التصوير الإيحائي للفكرة..

في قصة سيدنا إبراهيم الشهيرة.. قام بغارة ليلية على أصنام قومه وحطّمها تحطيماً ماعدا أكبرهم حجماً.. ثم ترك الفأس في يد كبيرهم هذا..

في الصباح لما رأى القوم (الدمار الشامل) أجروا تحريات أولية فاشتبهوا في إبراهيم لأنه ذكر الأصنام بسوء.. فأحضروه للاستجواب.. فقال لهم إنّ هذا الكبير وفي يده الفأس الأرجح أن يكون هو (المتهم الأول).. فهو متلبس.

هنا – أنظر لتصوير الفكرة لا المشهد – استدركوا أنهم تعجّلوا في اتهام إبراهيم فالبرهان المتوفر في مسرح الجريمة يمسك بتلابيب كبيرهم هذا.. فعاتبوا بعضهم البعض على اتهامهم لرجل بدليل (كلامي) بينما أمامهم دليل (فعلي)..

بالله تعال معي الآن وانظر وصف القرءان التصويري لــ(فكرة) الإنكار Denial .

الإنكار نوعان.. إنكار بصري مشهدي.. وإنكار فكري معتقدي.

قوم سيدنا إبراهيم.. ألجمتهم حجة إبراهيم بأن أداة الجريمة بيد المجرم في مسرح الجريمة بعد.. فأقروا بهذا (المشهد البصري).. وهنا مارسوا فضيلة الاعتراف بالخطأ. (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون).. كثير من كتب التفسير افترضت أن (الظلم) هنا مقصود به إيمانهم بآلهة رأوها أمامهم لم تمنع عن نفسها التحطيم. لكني أعتقد أن هذا التفسير لا يفي بروائع التصوير القرءاني للفكرة.

قوم إبراهيم قصدوا أن اتهامهم لإبراهيم فيه (ظلم) له بحساب الدليل البصري المشهدي.. وأنه بريء من تهمة تدمير الأصنام.

وهنا تأتي أدق روائع التصوير الفني في القرءان لـ (الفكرة) لا المشهد البصري…

تقول الآية (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ..).. بالله أنظر لصورة (نكسوا على رؤوسهم).. بالدارجي نقول (قلبوا الهوبا).. حالة الإنكار الفكري.. فقالوا لسيدنا إبراهيم (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ..).. بالله انتبه لكلمة (هؤلاء).. قوم سيدنا ابرهيم في البداية استخدموا كلمة توقير العبودية فقالوا (من فعل هذا بآلهتنا)؟؟ لكن حينما واجههم سيدنا إبراهيم بحجة أنهم أعجز من أن يحموا أنفسهم.. ولا يستطيعون حتى مجرد الرد على الأسئلة (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ..) ردوا عليه بكلمة (هؤلاء) بالدارجي نقول (الناس ديل).. بدلاً عن (الآلهة..) من لا ينطق ولا يتحرك ولا يفعل شيئاً فإن الإشارة إليه تتدنى لمستوى العوام (الناس ديل).. تقليل مستوى (الآلهة) إلى مستوى بشري.. هذا الإنكار المشهدي لم يمنع الإنكار الفكري (ثم نُكِسوا على رؤوسهم,,)

تصوير القرءان يبرز أن الاعتقاد الفكري لا يقوم على منطق مشهدي في عالم الشهادة.

هنا أدرك قوم إبراهيم خطورة المواجهة.. إبراهيم لم يكن يقصد (تحطيم) الآلهة مادياً.. هو يحاول تحطيم الفكرة وعلى مستوى تبشيري (إعلامي!) بإشاعة فكرة غياب الإرادة والقدرة عند الآلهة. فقاموا بتحويل التهمة من مجرد جريمة (جنائية!) إلى جريمة (أمن الدولة).. وأصدروا الحكم القاسي بالإعدام حرقاً بالنار.. بمشاركة وعلى مرأى الشعب حتى تحترق فكرة إبراهيم قبل جسده.

صحيفة التيار