الصادق الرزيقي

جنوب إفريقيا وبورندي .. ورهان واشنطن الخاسر ..

حملة النعش الملعون ..! لم يكن أحداً يزايد أو يدعي أو يضخم ما يراه، عندما كان يُقال في فضاءات إفريقية عديدة وأهمها هنا في السودان أن المحكمة الجنائية الدولية قد شُيِّعت وطُمرت تحت التراب وذهبت لمثواها الأخير، وظل البعض يعتقد أن ما هذه الأقاويل الجازمة إلا تمنيات وأحلام نعتقدها هنا في السودان جراء تضررنا من هذه المحكمة الظالمة، وفي أفضل تفاؤل المتفائلين عندنا هنا لم يتجاوز عندهم الموقف الإفريقي ما ظل يرد في البيانات الختامية للقمم الإفريقية منذ قمة كمبالا الشهيرة قبل سنوات التي دعا فيها الرئيس يوري موسيفني للانسحاب الجماعي من المحكمة، وتأكد هذا الموقف الإفريقي الشجاع في القمم التي تلت قمة كمبالا، والتزمت الدول الإفريقية الموقِّعة على نظام روما المؤسس للمحكمة بالموقف الإفريقي وكانت تستقبل الرئيس البشير على أراضيها غير آبهة بالمرة بما يترتب على ذلك حتى حانت لحظة الحسم وساعة اتخاذ القرارات الجبارة . بلدان إفريقيان صميمان، أحدهما دولة إفريقية عظمى في موقع الريادة والقيادة في العمل الإفريقي وهي جنوب إفريقيا بكل ثقلها ووزنها السياسي والاقتصادي الدولي، والبلد الثاني بورندي وهي بلد صغير الحجم في قلب منطقة البحيرات العظمى في الوسط الإفريقي، لا تتجاوز مساحتها مساحة محلية من المحليات الكبرى في ولايات السودان، وهي دولة صغيرة فقيرة بلا موارد تعاني من آثار الحرب التي دارت مطلع التسعينيات ومن اضطرابات سياسية مستمرة، هذين البلدين قدما خلال اليومين الماضيين الرسالة الإفريقية القومية للمجتمع الدولي وأهالا التراب على المحكمة الجنائية الدولية المقبورة في جدثها. فقرار جمهورية بورندي بالانسحاب من المحكمة الجنائية جعل من عاصمتها الجميلة الوادعة ( بوجمبورا) أيقونة إفريقية ونقطة مضيئة ولامعة في السماء الإفريقي، كأول دولة تنسحب من نظام روما، ولن يكون قد خطر على بال الأوروبيين والغربيين الداعمين للمحكمة الجنائية الدولية أن الطعنة النجلاء القاتلة لمحكمة الرجل الأبيض، تأتيهم من بلد منهك بالحروبات والوضع الاقتصادي الضاغط مثل بورندي، وهذه رسالة إفريقية مهمة جداً، وقبل أن يرتب الغربيون وخاصة الدول الأوروبية لردة فعل بعد أن يفيقوا من الصدمة الأولى ، جاء قرار جنوب إفريقيا ببدء الإجراءات للانسحاب من المحكمة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، والقطرة التي أفاضت الكوب، فقرار حكومة الرئيس الجنوب أفريقي جاكوب زوما جاء في توقيت دقيق مسانداً لبورندي وداعما ًومقويا ًلها، وحامياً لظهرها من أن تنتاشه نصال الأوروبيين. فالآن جنوب إفريقيا تتصدر المشهد والمعركة وهي معركة السودان الكبرى، وقد كانت الخرطوم أكثر وعياً وإدراكا ًمنذ البداية عندما رفضت المصادقة على نظام روما ولم تنضم للمحكمة لأنها كانت تعلم أهداف هذه الأداة الاستعمارية الجديدة، وقادت الخرطوم حملة التوعية لكل الإفريقيين في مجالات مختلفة وعبر منابر متنوعة تصاعدت حتى وصلت الحملة ذروتها ضد المحكمة بقرارات القادة والرؤساء الأفارقة. فالسودان هو فارس هذه الحوبة، وقائد هذه المعركة، كان وحده لكن ناصرته كل إفريقيا، كان هو الأوحد والآن أصوات اإفريقيا وطبولها وهديرها يعلو في كل مكان، فالمطلوب تعزيز هذين الموقفين لجنوب إفريقيا وبورندي بخروج دول أخرى وهي في الطريق .. مبروك للدبلوماسية السودانية التي نجحت في سجالها الطويل ضد المحكمة وهزيمتها فقد كانت معركة شرسة وطويلة وبدأت بشائر النصر تلوح . هل تبدلت المواقف ..؟! موقف الولايات المتحدة الأمريكية الجديد بشأن احتضان وإيواء حكومة دولة جنوب السودان لفصائل المعارضة السودانية المسلحة خاصة متمردي دارفور وما يسمى بالجبهة الثورية ، يحتاج الى قراءة دقيقة . فالولايات المتحدة لم تكتشف فجأة وبالأمس القريب وجود هذه المجموعات السودانية المتمردة في دولة جنوب السودان، كما أنها لم تكن بعيدة عن العلاقة المعقدة بين أجهزة ومؤسسسات جنوب السودان الأمنية والعسكرية، فواشنطن تعلم بكل صغيرة وكبيرة وكانت عُراب هذا التحالف طيلة السنوات الماضية، لكن يبدو أن تطورات مهمة تحدث في المنطقة وترتيبات جديدة أظهرت لواشنطن خطل وخطأ ما كانت تفعله ويفعله حلفاؤها في المنطقة، وكل ما راهنت عليه انتهى في ومضة عين، فلم يعد الجنوب دولة، ولم تعد الأوضاع فيه تحتمل مزيدا ًمن التوتر مع السودان الذي يمثل باعتراف الإدارة الأمريكية نفسها أهم لاعب في المنطقة يمكن أن يُسهم بفاعلية في حل مشكلة جنوب السودان، كما أن واشنطن اكتشفت مؤخراً عبر مبعوثها وعدد من سفاراتها في المنطقة أن حركات دارفور هي مجموعات مرتزقة بلا أفق سياسي ولها سجل أسود في مجال جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان ولا يمكن أن تكون بديلاً على الإطلاق للحكم في السودان .. في هذا الجانب لابد من الإشارة الى أن أبناء دولة جنوب السودان في الولايات المتحدة الأمريكية وأطياف متنوعة من السياسيين الجنوبيين، لعبوا أدواراً مهمة في توضيح حقيقة الدور الذي كانت تقوم به المجموعات السودانية المتمردة داخل دولة جنوب السودان ومشاركتها في الحرب الدائرة هناك وكانت مناساب إطالة أمد الحرب الجنوبية وتفاقمها . التحولات الجارية في المنطقة على الصعيدين العربي والإفريقي كلها مؤشرات تستحق النظر العميق وتشير إشارات قوية على أن كفاءة أدوات العمل الخارجي لدينا وحسن التقديرات في اتخاذ القرارات والمواقف السليمة جعلت الكثير من المواقف الدولية ترجح لصالح الكفة التي نحن عليها . معهد القرش ومالك الزاكي قرأنا بنهم كتاباً جديداً وصغيراً ممتعاً للأستاذ الكبير المعلم والبرلماني مالك الزاكي صالح، الذي يقف على تلة من التجارب والخبرات والمواقف والأحداث التاريخية التي عاصرها وعاشها، كتابه عن معهد القرش جاء بعنوان ( ربع قرن في عش الأيتام1964- 1989 ) وهو كتاب توثيقي لهذه المؤسسة التربوية الاجتماعية العريقة التي أنشئت في العام 1931 بمبادرة من عبد الفتاح المغربي رحمه الله وكان في البداية تحت مسمى (ملجأ القرش ) ثم تطور لمعهد القرش في العام 1964 وكان مخصصاً للتعليم الحرفي وتخرج فيه عدد كبير من الخبراء والفنيين وغيرهم .. يوثِّق مالك الزاكي لمسيرة معهد القرش وتطوره عبر المراحل التاريخية المختلفة ودوره وما قدمه للمجتمع ولأجيال مختلفة فهو رائد التعليم المهني ومنارة من منارات العلم والمعرفة ومعبر لسوق العمل لكير من الفنيين والحرفيين ، عندما يحكي مالك الزاكي قصة هذا المعهد ودوره فإنه يقدم خدمة جليلة للقارئ السوداني فقد بذل جهداً جبارا ًفي هذا الكتاب دعمه بالوثائق التاريخية والصور عقب الحقب المختلفة ، وبعباراته الجزلة ولغته السهلة يجعلك تغوص في لجة الذكريات والتاريخ القريب وأحداث مرت عليى البلاد تؤكد عظمتها وريادتها .

الانتباهة