همسات في زمن الصراخ !
} أترى الخائن لوطنه عندما يُجرُّ إلى حبل المشنقة؟
إنه قد يكون وسيم التقاطيع، وربما كانت له أم يبرّها أو زوجة يحبّها أو رحِم يصِلها.
لكن شيئاً من هذا لا يذكر أبداً عند اقتياده إلى ساحات الموت.
إن الجُرم الذي ارتكبه أفظع وأشنع من أن تذكر بجانبه حسنة، ألم يخُن وطنه؟
إن خيانة قطعة من الأرض تسمّى الوطن جريمةٌ أهون من خيانة ربّ الأرض كلها، أهون من الكُفر بالله رب العالمين!
إن الحضارة المادية التي صدعت اليقين في القلوب هوّنت من شأن الإيمان وجعلت الناس ينحتون لأقوام حاربوا الله والمرسلين وربما أعجبوا بهم.
بيد أننا لا نفقد عقلنا ولا وزننا للأمور إذا اختلت موازين الناس وشاطت ألبابهم.
إن إنكار الإلوهية جريمة كبرى وإذا تلطّخ بهذه الرذيلة أحد فهو في نظرنا شخصٌ نجس.
ونحن نعامل الأحياء والأموات على ضوء هذا الحكم الحاسم).
ضد المادية
} بهذه الكلمات الحاسمة صدّر أستاذ الفلسفة المعاصرة بالجامعة ورقته حول الفلسفة المادية وكرّرها حتى حفظناها وذكّرنا بأنها من كلمات الراحل محمد الغزالي التي عصمت الكثيرين.. هي وأخريات وجدتها في كراسة قديمة فتساءلت كم منّا يحتفظ بالوريقات القديمة عندما كان بلا تجربة ولا ألق.
الوريقات القديمة مضادٌ حيوي للذين يظنّون أنفسهم أبناء اليوم. الوريقات القديمة ترجع للبعض فضائل الوفاء التي اندثرت في زمان القفز والفقر وشح المفردات.
بعبارتي التي بقيت من القصيدة بعد أن نسيت القصيدة الأصل من يعيدني شعري يا أصدقاء نادي الرمل؟ من؟
ليال وليال
} وبمناسبة الغزالي فما نحفظه له ونستعمله في أركان النقاش:
(إن اللص يسهر ليله ليختلس النائمين والشرطي يسهر ليله ليحرس الأمن لقاء راتب معهود.. والمتهجّد يهجر فراشه ويدع لذيذ الرقاد لا لشيء إلا ليعبد ربه في هدوء وصفاء.. ويتدبر آياته في خشوع ورجاء مرتقبا في الآخرة ثمار ما يغرس في الدنيا (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).
إن سهر هؤلاء الثلاثة واحد والفرق بينهم شاسع
فأما الأول فمجرم يستحق العقوبة بما يبيت من إثم.
وأما الثاني فأجير يؤدي واجبه بثمن لو تأخر عنه قليلاً لسخط وترك ما كُلّف به.
وأما الأخير فرجلٌ مؤمن بالغيب والشهادة يعرف ما يعمل، ولمن يعمل.
ومن هنا فنحن لا نكترث لكل جهاد نفسي ولا لكل عناء يتجشمه البشر ما لم يكن جهاداً رشيداً محكوماً بإطار من هدي السماء وصحة الأداء).
اعتراف وتوحيد
} لقد اعترف الطيار الروسي (تيتوف) وهو رائد الفضاء يدور بسفينته العجيبة حول الأرض حين رأى مظاهر كونية شتى كلها ساحر ورائع ثم قال: (ولكن أروع من هذا كله منظر الأرض وهي معلّقة في الفضاء.. إنه منظر لا يستطيع الإنسان أن ينساه ولا أن يضيّعه من خياله.. كرة تشبه الصور المرسومة لها في الخرائط معلقة في الفضاء ليس هناك من يحملها.. كل ما حولها فراغ.. فراغ.. فراغ
وقد أصبت بالذهول مدة لحظات وسألت نفسي في دهشة: ترى ما الذي يبقيها معلقة هكذا هناك..؟)
والجواب: من إلا الله؟ إن هذا السؤال الذي توحي به الفطرة البريئة لا نرى أيسر ولا أصرح من إجابة القرآن الكريم عليه (إن الله يُمسِك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده).
} إنه هو الذي أبقاها معلّقة هكذا في مكانها كما أبقى القمر والشمس اللذين نراهما ليلاً ونهاراً، لا ركيزة لأحد هذه الكواكب إلا أعمدة القدرة العليا.
} ومن أدب النقد الذاتي قول العارف:
أحسن الله بنا إن الخطايا لا تفوح
فاذا المستور منا بين ثوبيه فضوح
وقال الرجل الصالح حين مدح: (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني فوق ما يظنون).
} قيل يوما لأحد الصالحين الذين غضب عنهم السلطان:
إفعل كذا وإلا أصابك ما لا تحمد عقباه
فقال: هل سأمنع من التردد ما بين بيتي والمسجد؟
قيل: لا
قال: فافعلوا ما بدا لكم.
} وعندما سُجن الشيخ عليش في أعقاب الثورة العرابية قيل له: تملّق الخديوي ليعفو عنك. فابتدرهم بقصيدته الشهيرة:
إلزم باب ربّك واترك كلَّ دون
واسأله السلامة من الفتون
لا تكترث لهمك ما قُدّر يكون
} كنا بالمدارس الثانوية نتبارى في انتخاب الآيات والأحاديث والأشعار لنحفظها بعد أن نقدم بين يديها فهمنا..
ومما انتخبته يومها من الأحاديث (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الفجر) رواه مسلم.. ومن التعليقات التي سمعتها عنه قول صديقنا أنه ظل يتعبد حتى ذلك الحين فلما أحس أن ساعة الاستجابة قد حانت خاف أن يسأل الله تعالى لأنه أحس بعظمته وتعقد لسانه!
فصاح صديقنا الدرويش (الله) حتى أجفل الفصل وقال بعدها معقباً (وهل هنالك أيها المسكين دعاء أبصر من صمتك هذا؟).
} عن عبد الله بن الشخير قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ (ألهاكم التكاثر) قال (يقول ابن آدم مالي مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت).
} من أجمل ما قرأت في الاقتداء والتقيد حكاية عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا حديثي عهد ببيعة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعونني؟
فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟
قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس، وتطيعوا -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس.
فقد رأيت بعض اولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسال أحدا أن يناوله إياه.
وعن ابن أبي مليكة قال: ربما سقط الخطام من يد ابي بكر الصديق رضي الله عنه فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه.
قال: فقالوا له أفلا أمرتنا فنناولكه؟
قال: إن حبي (صلى الله عليه وسلم) أمرني أن لا أسال الناس شيئا!
حسين خوجلي – صحيفة الوان