تراجعت الظاهرة ولكنها لم تختفِ الاتجار في البشر بكسلا.. المافيا تستحدث أساليب جديدة
توجه الملازم أول محمد فكي ترافقه قوة إلى حي الشعبية في مهمة خاصة لم يعرف تفاصيلها إلا منفذوها ومدير الشرطة الأمنية بكسلا، فقد كان على أفراد الفريق الشرطي الذي تم اختياره بعناية تنفيذ التوجيهات في سرية تامة مقرونة بسرعة في الأداء، وبالفعل حينما اقتحمت القوة منزلاً بالحي الشعبي كانت تضع في حسبانها أن أجنبيًا واحدًا اختطفه تجار البشر، غير أنها تفاجأت بوجود خمسة لاجئين محتجزين في غرفة تفتقر إلى منافذ الهواء ويتصبب منهم العرق ويرتجفون خوفاً، ليضع رفاق محمد فكي حدًا لحبسهم ويتنفسون الصعداء بعد أن واجهوا ظروفاً عصيبة..
إذن ما تزال ولاية كسلا ورغم القبضة الحديدية والضاربة لأجهزتها الأمنية والشرطية تعاني من ظاهرة الاتجار في البشر والتي ورغم تراجع معدلاتها إلا أن النصف الثاني من هذا العام شهد عودتها مجدداً، وهذا ما تكشفه عمليات تحرير الرهائن التي تنفذها الشرطة.
خمسة بدلاً من واحد
خلال هذا العام فإن الشرطة بكسلا بمعاونة قوات من جهاز الأمن والجيش تمكنت من توقيف عدد كبير من تجار البشر الذين يمارسون الاختطاف والاحتجاز غير المشروع للاجئين وممارسة ابتزاز ومساومة على أهل المختطفين بغية إطلاق سراحهم مقابل مبالغ باهظة من الأموال.
واللافت من خلال تقصينا حول هذه العمليات غير القانونية والتي لا علاقة لها بالشرع، فإن الذين ولجوا إلى مجال الاتجار في البشر من أعمار مختلفة وتنحدر أصولهم من مختلف المكونات الاجتماعية بالولاية، وبالعودة إلى ما حدث بحي الشعبية، فإن القوة التي قادها الملازم أول محمد فكي وعندما تلقت تعليماتها من مدير الشرطة الأمنية كانت تعتقد أن رهينة واحدة في انتظار تحريرها لتتفاجأ بوجود أربعة آخرين بينهم طفلة وثلاث فتيات في أعمار دون العشرين عاماً، والخيط الذي قاد الشرطة إلى العصابة التي كانت تحتجز الأجانب الأربعة يتمثل في مفاوضة أفرادها أسرة شاب محتجز لديها ومطالبتها بأربعين ألف جنيه لإطلاق سراحه، وبالفعل تسلمت عشرة آلاف جنيه، غير أن وصول المعلومة للشرطة أوقفت عملية الابتزاز التي كانت تتعرض لها أسرة الشاب.
والغريب في الأمر أن العصابة كانت تحتجز الأم وطفلتها البالغة من العمر عاماً واحداً دون أن يرق لهم قلب، وهنا تشير والدتها فائزة إلى أنها واجهت معاناة حقيقية في إرضاع طفلتها، وذلك لأنها لم تكن تتناول في محبسها طعامًا كافياً، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي كانت عليها ولم تجد بعد إطلاق سراحها غير أن تذرف الدموع والقوة الشرطية تحضر لها كمية من لبن الأطفال وآخر لتشربه، لتكتب عناية السماء للشاب تدروس والمرضعة فائزة والفتاتين أدجيام وشبانو حياة جديدة، والأم الشابة فائزة كانت في طريقها للخرطوم للالتقاء بزوجها غير أن العصابة وكما تشير استدرجتهم من مدينة تسني ليعبروا الحدود الأرترية السودانية عبر الأقدام، وبعد ذلك أدخلتهم في المخبأ السري بحي الشعبية، لتكون في النهاية كلمة الشرطة هي الأعلى.
امرأة تتزعم عصابة
آخر الحوادث التي هزت الوجدان بكسلا وتسببت في زيادة السخط على تجار البشر الذين يعتقدون بقدرتهم على الإفلات من القوات النظامية، ولكن هذه النظرية تبددت حينما نجحت الشرطة الأمنية بكسلا من فك طلاسم جريمة تبدو غامضة، ولعبت المعلومات والمصادر دوراً بارزاً في الوصول الى المخبأ الذي تخفي فيه العصابة ضحاياها من المختطفين، ففريق الشرطة الأمنية الذي تصدى لهذه الحادثة بقيادة المقدم أبوعبيدة الضو تعامل مع المعلومات التي وصلت إليه بجدية وإيقاع سريع، حيث تم تشكيل قوة توجهت نحو حي القصب حيث داهمت منزلاً عادياً لا تبدو عليه آثار إخفاء لاجئين، وعند اقتحامه تأكدوا من صحة المعلومة التي وردت إليهم حيث وجدوا عشرة لاجئين ارتريين من أسرتين رهن الاختطاف، وكان منظر الأطفال الصغار جالباً للحزن ومثيراً للحسرة، فقد أدخلت العصابة في قلوبهم الرعب.
والغريب في الأمر أن إحدى الأسر أرسل عائلها المقيم في إسرائيل مبلغ مائة ألف جنيه للعصابة لإطلاق سراح أفراد أسرته ووضعت القوة الشرطية يدها على المال، أما الأسرة الأخرى التي يقيم عائلها في المانيا فقد طلبت العصابة منه إرسال مبلغ أربعمائة ألف جنيه حتى تطلق سراح أسرته، غير أن حلم الثراء السريع تبدد حينما تمكنت القوة الشرطية من تحرير الرهائن والقبض على أعضاء العصابة الذين استدرجوا الأسرتين من مدينة كرن الإرترية.
والجدير بالذكر أن المنزل الذي اقتحمته الشرطة كانت توجد فيه امرأة تم استئجار منزلها لإخفاء المختطفين.
دماء وشهيد
جرائم الاتجار في البشر لم تعد حصرية على محلية محددة بولاية كسلا، وهذا ما توضحه حادثة استشهاد شرطي بمحلية نهر عطبرة التي كانت خارج دائرة الاتجار بالبشر إلا أنها باتت معبراً وملجأ لمافيا هذه التجارة، فالشرطي شريف أبو فاطمة كان ضمن قوة تتجول في سهول البطانة بمحلية نهر عطبرة لمحاصرة تجار البشر، لتتلقى القوة معلومة تفيد بتحركات مريبة لإحدى المجموعات الخارجة عن القانون التي كانت تحاول تهريب لاجئين على متن سيارات حديثة، وبالفعل في الوقت المناسب وصلت القوة الشرطية وتمركزت في إحدى النقاط، ووضعت خطة محكمة للإيقاع بالجناة غير أن عربة مسرعة تتبع لهم أطلق من كان يستقلها النار علة الشرطة لتتسبب في استشهاد أبو فاطمة وإصابة جندي آخر كان يمسك بسلاح الدوشكا لشل حركته، وتمت مواراة جثمان الشهيد أبوفاطمة الثرى وسط وعد من رفاقه بالضرب بيد من حديد على كل عصابات الاتجار بعد أن تمكنت من إلقاء القبض على الجناة، وتلك الحادثة كانت الشرارة التي أوقدتها عصابات الاتجار في نفوس أفراد الشرطة بكسلا بقيادة اللواء الدكتور يحيى الهادي سليمان.
اختفاء الرحمة من القلوب
وإذا كانت حادثة اختطاف الأم بطفلتها وحادثة قتل الشرطي أبوفاطمة قد حظيتا باستنكار الشارع الكسلاوي، فإن حادثًا ثالثًا أثار ردود أفعال غاضبة ومؤيدة لسياسة القبضة الحديدية الباطشة للشرطة ضد تجار البشر، ويتمثل في احتجاز أفراد عصابة نزعت من قلوبهم الرحمة لطفلين لم يتجاوزا السنوات العشر من عمريهما، وهما شقيقان إرتريان، حيث تم استدراجهما بواسطة مهرب من مدينة مندفرة الإرترية بزعم إيصالهما للخرطوم وتكملة إجراءات سفرهما للحاق بوالدتهما بالسويد، غير أنه وبعد وصوله برفقتهما إلى كسلا احتجزهما بمتجر مهجور يقع في الترعة وسط مدينة كسلا بالقرب من مقابر الحسن والحسين استأجره المهرب ومارس على والدتهما ابتزازاً صريحاً وهو يطالب بثمانية آلاف دولار نظير إطلاق سراحهما، ليظل الطفلان رهن احتجاز لا تتوفر فيه أدنى المقومات الإنسانية لمدة 48 ساعة متواصلة، وبعد ساعات عصيبة وقاسية داهمت الشرطة التي كانت تراقب عن كثب تحركات تاجر البشر المتجر الذي يحتجز فيه الطفلين وباحترافية نجحت في فك أسرهما وإلقاء القبض على التاجر الذي لم يجد غير الاعتراف بجريمته الشنعاء التي كادت أن تودي بحياة الطفلين وأمهما بالسويد التي عاشت لحظات عصيبة ولم تجد غير ذرف الدموع وشكر القوة التي حررت ابنيها عبر الهاتف.
طالبات المدارس المزيفات
تتنوع أساليب عصابات الإتجار في البشر في الإيقاع بالضحايا وإخفائهم، ففي حادثة هي الأولي من نوعها استدرج مهرب أرتري عدداً من الفتيات اللواتي لم تتجاوز أعمارهن 20 عاماً وأوهم أسرهن بقدرته على إيصالهن للخرطوم ومن ثم تسهيل إجراءات سفرهن إلى أوربا، غير أنه أيضًا عمد الى ممارسة ابتزاز بمساعدة تجار بشر سودانيين، والجدير بالملاحظة أن المهرب الأرتري انتهج أسلوباً غير مسبوق في إيصال الفتيات الإرتريات الخمس الى مدينة كسلا بعد أن قرر احتجازهن، وذلك بأن وفر لهن زي طالبات المرحلة الثانوية واستأجر لهن حافلة تستعمل لترحيل طلاب المدارس ودخلن بهذه الطريقة المبتكرة إلى مدينة كسلا غير أنه أيضاً لم يضع في حسبانه وجود أعين ترصد حيلته التي لم تنطل على الشرطة، ولم يتمكن الجاني من إكمال مسلسل الابتزاز بعد أن طلب بثمانية آلاف دولار نظير كل فتاة محتجزة.
ثقة وتأكيد
يبدو مدير شرطة ولاية كسلا اللواء البروفسير يحيى الهادي سليمان واثقاً وهو يجيب من قبل على تساؤلنا الذي يستفسر عن قدرة الأجهزة المختصة بكسلا على مواصلة رحلة التضييق على تجار البشر أم لا، ويؤكد في حديث لـ(الصيحة) أن كل الأجهزة الأمنية في كسلا باتت تمتلك خبرة واسعة في كيفية التعامل مع عصابات الاتجار بالبشر، مبيناً أن استراتيجيتهم لمحاربة هذه الممارسة الإجرامية متنوعة وتشتمل على عدد من المحاور منها التوعية والتي وفي سبيل تفعيلها يشير اللواء يحيى إلي عقد دورة تضم فعاليات في المجتمع وأفراد الشرطة، وذلك لرفع القدرات البشرية وتحديد المسؤوليات، وقال إن الشرطة أيضاً وفي سبيل محاربة جريمة الاتجار بالبشر يستحوذ تدريب الكوادر على اهتمام كبير، بالإضافة الى العمل الميداني والشرطي، مبدياً سعادته بالإنجازات المتتالية التي حققتها الشرطة بمختلف المحليات، مبيناً وجود قوة مشتركة بين الشرطة والجيش والأمن ترتكز بمحلية نهر عطبرة وذلك لمحاربة جرائم الاتجار في البشر والسالف والتهريب وقال إن هذه القوة نجحت في تحقيق الكثير من الإنجازات خاصة على صعيد تحرير الرهائن وتوقيف عصابات الاتجار، وأشاد كذلك بالجهود التي تبذلها شرطة محلية حلفا الجديدة في هذا الصدد، وقال إن الطوف المشترك الذي يؤدي مهمة حماية الحدود نجح في محاصرة جريمة الاتجار والتضييق على المخالفين بتوقيفه الكثير منهم ، مفاخرًا بوجود متحرين متمرسين في نيابة الاتجار بالبشر، قاطعاً بقدرات القوات النظامية بكسلا على محاصرة جريمة الاتجار بالبشر.
200 ألف لاجئ
إذن كيف تنظر معتمدية اللاجئين بشرق السودان لعمليات الاتجار بالبشر، يجيب مساعد معتمد اللاجئين محمد أحمد موسى، ويشيد بالأداوار التي ظلت تؤديها شرطة ولاية كسلا في ضبط الأفراد الضالعين في هذه الجريمة، معتبرًا أن الضبطيات أسهمت في تراجع نسبة جريمة الاتجار ، نافياً تعرض اللاجئين بمعسكراتهم بالولاية إلى اختطاف أو تجارة، مبيناً أن الذين يتعرضون للاختطاف يحدث لهم هذا الأمر في الحدود وقبل دخولهم المعسكرات، مشيرين إلى أن اللاجئين في الولاية يبلغ عددهم 200 ألف موزعين على سبعة معسكرات، مؤكداً تنسيقهم التام مع الجهات الأمنية بالولاية لحمائة اللاجئين من الاختطاف.
ظلال اقتصادية
أما المختص في جرائم الاتجار في البشر ومدير مكتب الجزيرة للخدمات الإعلامية بكسلا، سيف هارون، فقد أرجع استمرار الاتجار في البشر بولاية كسلا خلال النصف الثاني من هذا العام رغم القبضة الشرطية، الى الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها البلاد عامة والشرق خاصة ، ويرى هارون أن شرطة الولاية تبذل مجهودات ضخمة وباتت صاحبة الكلمة العليا في الحرب ضد تجار البشر وأنها تمكنت من تحقيق اختراقات حقيقية هذا العام بتحجيمها هذه التجارة إلى أدنى مستوياتها، إلا أن هارون يعتقد بأن جهود الشرطة كان يجب أن تتزامن معها جهود أخري من الدولة لخفض البطالة بالولاية عبر إعادة الحياة الى مشروع القاش بالإضافة إلى تقنين التجارة الحدودية مع ارتريا عقب إغلاق الحدود، ويرى أن اتجاه الشباب لممارسة هذه التجارة يحتاج إلى دراسة ومعالجة عاجلة ، مؤكدا على أن الشرطة بكسلا تتحمل حالياً مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية بالبلاد والولاية وتحارب في أكثر من جبهة منها تجارة البشر.
الوالي يؤكد
قلنا لوالي كسلا آدم جماع إن قفل الحدود مع إرتريا وتوقف عمليات تهريب السلع الغذائية أسهم في ازدياد جرائم الاتجار بالبشر، فنفى هذا الاعتقاد وقال: نعم، الجزئية الأولى صحيحة، فقد نجحت القوات المشتركة في إيقاف تهريب السلع وضبط الحدود الشاسعة بشكل غير مسبوق ، وحتى نغطي كافة الحدود طلبنا عبر مجلس الولايات دعماً لوجستياً ومادياً مركزياً، أما فيما يتعلق بالاتجار الذي لا تنحصر ممارسته على فئة محددة فإن عملياته شهدت انحساراً واضحاً وإحصاءات الثلاثة أشهر الأخيرة ومقارنتها بذات الفترة من العام الماضي توضح الجهود الكبيرة التي تم بذلها في الضرب بيد من حديد على تجار البشر.
وهنا لابد من الإشادة بالقوات الأمنية والشرطية والقوات المسلحة في كسلا لأنها خاضت حربها ضد هذه الجريمة بشراسة ووطنية وإخلاص، وحققت نجاحات باهرة هي محل إشادتنا وتقديرنا، مؤكداً حاجة قواته النظامية إلى مزيد من الدعم حتى تتمكن من ضبط الحدود كلياً.
الصيحة