رأي ومقالات

السنبك.. قصة قصيرة

لم نكن ميسورين الحال ولكن الحال كان ماشی .. كل املاكنا كانت حواشة وكم غنماية ومخزن عبارة عن مطمورة ندفن فيها حصاد حواشتنا كل عام ، ولا نمد يدنا إليه إلا فی ساعة الحوجة والزنقة الحارة ….

لم أستطع أن أكمل تعليمی بالرغم من اننی كنت الأول دائما علی اقرانی .. ودعت مقاعد الدراسة عقب اكمالی لمرحلة الأساس لاتحمل عبیء الأسرة لاننی الكبير بعد أن أصيب والدی بالشلل بسبب حقنة مسمومة حقن بها خطأ بشفخانة القرية … ومن يومها وانا أقوم بدور الأب فی كل شؤون المنزل والأسرة الكبيرة .. ولم تكن الأمور علی ما يرام بعد أن ازدادت نفقات الصحة والتعليم وأصبحت الحياة تزداد علينا قسوة كل يوم .. فنظر الي والدی ذات يوم بشفقة وقال لی بحرقة والدموع تملأ عينيه : لو كنت أستطيع أن انهض .. لقد حملتك المسؤولية وانت طفلا تحتاج للعون .. لقد أصبحت رجلا قبل الأوان …. وخبیء رأسه منی تحت الوسادة وسمعت حشرجة صوته وهو يبكی ……..

فكرت كثيرا فی طريقة اخری لاعول بها هذه الأسرة ولاوفر بعض المال لعلاج والدی المريض ولم يكن امامی شيئا غير الحواشة فبعتها ولم يكن عندی حلا غير الهجرة فهاجرت .. ولكننی لم أوفق لقد قبض علي بدعوی التخلف ومخالفة الأنظمة ووجدت نفسی علی رصيف ميناء سواكن وليس معی إلا القليل والقليل جدآ من المال … فكنت مطرقا دائم الصمت العن حظی والوم نفسی علی التفريط فی مصدر تمويل الأسرة الحواشة وكيف ارجع إليهم وماذا اقول ؟؟؟

وبينما انا ادير امری يمنة ويسری سمعت ثمة أشخاص يتحدثون ويقول أحدهم للآخر : على الطلاق أكان اياكلنی السمك تاني ما ارجع علی الحلة .. اتا موهوم ؟ امش اقول شنو .. أقول كشونی … فيرد عليه الآخر : اها عندك قروش تاني عشان تسافر بيهن ؟؟؟ فيجيبه : ما عندی بركب السنبك يا غرقة يا مرقة … فدنوت منهم وشاركتهم الحديث واتفقنا جميعا علی أن نركب السنبك … فدفعنا شيئا من المال وتوكلنا علی الحي الذی لا يموت ومخرنا عباب البحر ..

كانت الرحلة ليلا وكانت مجازفة كبيرة ، أكثر من خمسين روح حشرنا حشرا رجالا ونساء وأطفال يومين فی البحر علی جرعات من الماء الشحيح والبسكويت حتی وصلنا جزيرة صغيرة مهجورة لا يسكنها حتی الجن من وحشتها .. قالوا لنا انتم علی بعد ثلاث كيلومترات من الساحل وسوف يأتيكم قاربا آخر ينقلكم الی بر الأمان …

ومضت الساعات ثقيلة وبسفر الفجر عن حقيقة صاعقة نحن فی وسط البحر .. لا شاطئ ولا ساحل ولا بر … وليس معنا إلا القليل من الماء والبسكويت وبدأ نواح النساء والأطفال وجرسة الرجال وأصبحت أكبر أحلامنا فقط أن نصل الی بر .. لا نفكر إلا فی النجاة ولكن من يرانا فی هذا المكان القصي البعيد الموحش فتذكرت سيدنا يونس وظلمة الليل والبحر والحوت وكيف الله اتجاه عندما دعی : لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين …. فدعوت .. واتجهنا جميعا نرفع اكفنا للسماء .. وبدأ الجوع والعطش والتعب يبلغ بنا مبلغا عظيما ودخلنا فی ظلمة الليل الثانی ولا نسمع إلا تلاطم الأمواج ولا نری إلا ظلمة البحر ..

بعضنا استسلم لمصيره وكتب وصيته وأدرك انها النهاية لا محال وبعضنا لا زال يتمسك بالحياة ويقاوم فكرة الموت .. وفجأة تذكرت حقيبتي وخطرت لی فكرة واخرجت كشاف البطارية وأخذت اشعله وأرسل ضوءه فی كل الاتجاهات فعسى ولعل يرانا أحد … وبعدها وبعد أن ادركنی اليأس والتعب دخلت فی غيبوبة لم أفق بعدها إلا فی أحد مستشفيات المدينة الساحلية وعلمت أن خفر السواحل رأي ضوء كشافی الصغير وقام بعملية الإنقاذ والحمدلله علی السلامة وإذا سلم العود اللحم بجود .

سألني أحد الأطباء لماذا قامرت بحياتك بهذه الطريقة وكنت ستفقد روحك ثمنا لهذا التهور : فقلت له ضحيت من أجل والدی المريض وحكيت له قصتی فرق قلبه وتكفل بعلاج والدی ، وأرسل لی ولوالدی إقامة نظامية وانا الآن اعمل هناك براتب محترم وأخذت صحة والدی تتحسن كل يوم .. وياما انت كريم يا رب .

أحمد بطران

‫3 تعليقات

  1. يا ود بطران

    أوجعت قلبي

    عندما يتعلق الأمر بالوالدين والإخوة والأخوات وتكون أنت كبيرهم …تتلاشى نفسك في تيارات تقودك إلى مصير كتب عليك

    وتظل تردد أبيات الشافعي التي يقول مطلعها الشهير:

    مشيناها خطا كتبت علينا ومن كتبت عليه خخطا مشاها

    ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها

    وموتى الضمير الذين يتاجرون بآلام الناس ويلهم من الله ، فمهما طال عمرهم ، مصيرهم أن يرحلوا عن هذه الفانية

  2. لك التحية اخ احمد ونسأل الله ان يعافي والدك ويمتعنا وإياكم بدوام الصحة والعافية ونسأل الله ان يريحنا من هؤلاء الخونة وتجار الدين ويعيدكم إلى حضن سالمين .