المقالات

شهادتي للتاريخ وبوابة حمدالنيل العتيقة

يحي العوض من الشخصيات السودانية البارزة ، صحفي جيد مثابر أسدى خدمات للسودان وللصحافة السودانية ، ولست بصدد تعداد ذلك .
كان لقائي الأول به بالمسرح القومي بأم درمان ، كنت تقريبا في نفس سنه أفور حماسا في حب الوطن وحب المسرح ، وعندما قرأت مسرحيته ” بوابة حمدالنيل ” أعجبت بها وبفكرتها ولغتها وصيغة حوارها وقلت مقولتي الشهيرة : هذا كاتب مسرحي سينقذنا من الوسخ ، المسرحية نالت عقاب مثيلاتها : المشي على
الرموش ، حكاية تحت الشمس السخنة ، نبته حبيبتي ، جوابات فرح ، أحلام جبرة ، مجلس تأديب ، حفل سمر لأجل خمسة حزيران ، أحلام الزمان ، بلد ناس فاطمة والقائمة تطول ….
وأصبح يحي صديقي أنتظر غروب الشمس لأهاجرله من أم درمان إلى ” نمرة 2 ” لأستمع لما يقوله !!!!!أحببته وأحببت أسرته ، وحتى حينما عدت للسودان من الكويت ومعي جهاز ” فاكس ” من صحيفة ” الوطن الكويتية ” كان وقتها مدير مكتب صحيفة الإتحاد الإماراتية ، لم يساعدني رغم أن مهمتي كانت تغطية الإنتخابات الديمقراطية التي أعقبت إنتفاضة مارس أبريل ، لم أغضب بل إحترمت خياره وقلت ذلك لرئيس تحرير الوطن الراحل المقيم جاسم المطوع ، طالعت له مؤخرا مقالا يقول فيه :
نتوه في رحاب النستولوجيا ويطغى الحنين الى الماضى ، ونستذكر رصيدنا من حظوظ الدنيا ونتذوق مجددا رشفات من كلمات سكنت القلب دون استئذان .. زفرات ، وحسرات احيانا تتصاعد، وسراب حجب الرؤية من واقع كان يمكن تطويعه بعيدا عن التهويل والوهن . ونطوف في سوحه ، ظلت أبوابه مفتوحة ليل نهار في المنفى بالقاهرة واسمرا ، اما في الوطن ، يعز اللقاء الا اذا كنت في رفقته في كوبر وشالا والرجاف وناقشوط ..او من تلك الثلة المنتقاة ، لتلتقيه في اجتماع خاطف (تحت الأرض ) وباسمه الحركي طه ابوزيد، في مخبئة في بيوت ارض الحجر بالديوم الشرقية !
شاغله الصدق ، عفيف النفس ، صارم في قناعاته ، زاهد في ما عند الناس والسلطة والدنيا كلها .. قديس ..لا ..درويش ، مرتاد سجون . نعم .. حبيس زنازين الاعدام ..نعم !
ابتسامة شاحبة على وجهه المعروق الذى لم يحظ بمزعة لحم ومع ذلك وسيم القسمات.. ! واقول له متعمدا مدخلا ناعما لحوار اعرف انه سيطول وقد انال منه (ضربة بالكتف ) .. فقد ( كنت معهم ولست منهم ) . وعلى يقين بأن الصحفي الذى يحاور صحفيا مثله ، يجد نفسه في حال مشابه للذي يأخذ شقيقته للديسكو لترقص معه في الاحتفالات الصاخبة ليلة رأس السنة وعند انطفاء الأنوار !
وأبادره:
كيف تتحمل ، في إسمك ، ميراث قطبين عظيمين من أعمدة التصوف ..التيجانى ..والطيب ود البشير ..!؟
ويجيبنى خليك من كلام الدراويش ويفتح علي النار : تسافر يايحيى في أول وفد سودانى وممثلا لاتحاد الصحفيين الي جمهورية المانيا الديمقراطية بعد ما اعترفنا بها وكنا في مقدمة الدول الافريقية التى تجرؤ على ذلك ، وتعود لتكتب انطباعاتك تحت عناوين بفنط 54( ايام في المانيا الشرقية )..
المانيا الديمقراطية ، تسميها المانيا الشرقية ! ورفيقك في السفر ، ممثلا لاتحاد الفنانين كلنا نحبه ونجله كيف يكون محور مقالاتك .. ابو داوود قال.. ابوداوود التفت حوله صبايا برلين ، ابو داوود عطر ليالينا ..ابو داوود معك في السودان قبل وبعد زيارة برلين ..متاح لك ان تكتب عنه ما تشاء ولكن تسافر عبر قارات وفي مناسبة تاريخية ليكون اساس مقالاتك ابو داوود !؟.. و يضيف ..بديهى في كل مكان في الدنيا هناك نكات وقفشات يتداولها الناس، ويضحك منها حتى من تسخر منهم .. فكيف تكتب بعد زيارتك للحد الفاصل بين برلين وبرلين الغربية عن تمثال لينين وتردد تلك النكته الباهتة : التمثال ضخم ومهيب ولكن لم ينحتوا له قدمين خوفا من ان يقفز لبرلين الغربية .. ده كلام يايحى …!؟
وتشعر بانزعاج حقيقي يخيفك امثاله ، تأتى لاستجوابه ولكنه يبادرك ويصبح هو المحاور ويحاصرك حتى تتمنى الهروب من مجالسته خوفا ان يكشف المزيد من الخبايا .. (خائنة الأعين وماتخفي الصدور) وخشيت ان يتذكر ما كتبته من طرائف عن ليونيد بريجنيف بعد زيارة للاتحاد السوفيتى وقلت ان والدته القروية زارته في منزل الرئاسة بالكرملين وطاف بها في غرفه الفاخرة واركبها السيارات المخصصة له ثم ذهب بها الي الداتشا في اعلى الجبال والتى يمضي فيها عطلات نهاية الاسبوع ، عندئذ قالت له والدته باشفاق : ماذا تفعل يابني اذا استولى الشيوعيون على السلطة !؟
والنكتة السياسية مازالت من اسلحة الشعب الروسي و عندما تسلم الرئيس بوتين الصندوق السري لاطلاق الصواريخ النووية من سلفه بوريس يلستين نبهه الأخير بقوله : كن حذرا ، هذا الذر يطلق الصواريخ النووية على بكين ، وذلك بوسعه تدمير نيويورك ” خرج بوتين وعاد بعد برهة غاضبا ملقيا الصندوق امام يلستين قائلا : إنك تخدعنى هذه الأزرار لا تعمل !
وقت الزنقات لاتسعفنى الا ضحكات سريعة الطلقات ، لكنها لاترقي الى طلاوة نهنهات عزيزنا السر قدور ..ضحكات مشحونة بالندم والاعتزار ! .. كان الاستاذ التجاني الطيب بالنسبة لنا الضمير النقي الذى تطل منه على عيوبك بكل صدق ، مرآة ترى فيها حقيقتك بلا رتوش ومجاملات .. وعندما اصدرت صحيفة (النهار) اليومية بعد الانتفاضة عام 1985 ، كان من اوائل المهنئين والناصحين ، كان يقول لى :حسنا لقد نجحت في اصدار صحيفة يومية مختلفه في شكلها واخراجها ، لكن المهم المضمون ، الصحيفة المستقلة تتحمل مسؤولية أكبر ، لان الحياد والاستقلال لا يعنى الوقوف في الوسط بين الحق والباطل .!
ونتساءل … عندما تعثر مشروع جيل التيجانى واختارت كوكبة من صميم قيادته ، الانسياق وراء إغواءات السلطة و سقطت في شراك المتربصين، في الخارج والداخل بحزبها ، ودفع الثمن الأخيار ، نصبت لهم المشانق ودراوي الاعدامات . فكيف استطاع حزبه ان يستمر واقفا على قدميه ومحتفظا باسمه وبرامجه وباصرار رغم الضربات المهولة التى اصابته من كل الاتجاهات ؟
وحدة الحزب ، كانت دائما صخرة النجاة ، ومهما كان الغضب وتجسيد السلبيات والاختيارات غير المقنعة في القيادة او في أولويات المسار ، فلن يجدى الانقسام ولن يقدم حلولا ولن يوقف مسيرة
الحزب ، واذا راجعنا صفحات الانقسامات ،من موقع المراقبين المحايدين ، لم ينجح المنقسمون في تحقيق انجاز يذكر الا الندم أو مكابرة فجة ، رغم صدق نوايا بعضهم، وتطول القائمة من الاستاذ عوض عبد الرازق الى يوسف عبد المجيد واحمد الشامى واحمد جبريل ، والخاتم عدلان ، واقفز مستثنيا القائمة المايوية ، احمد سليمان ، معاوية سورج ، عمر مصطفي المكى ، محمد احمد سليمان وأخرين ، فقد ساهموا بفعالية في المأزق الذى يعيشه السودان والممتد بين سلسلة الانقلابات العسكرية منذ مايو 1969 ويونيو 1989 والى الآن !. وما كنا نحسب ان يأتى بعدهم ، سليل دوحة الركابية وخلاويهم بامدرمان ، و خاله الاستاذ عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة من جيل مؤسسي وقيادي الحزب وشقيق الرجل الذى يذوب حياء الأديب مصطفي مبارك .كانت خلاوي الركابية ولاتزال ملجأ ومنارة أهل السودان بجميع سحناتهم وطوائفهم ، حتى ان الاستاذ سمير جرجس مسعود من قيادات الحزب الشيوعى ومن اقباط السودان ، كان ملاذه الوحيد للاختباء من مطاردة البوليس السياسى في خلاوى الركابية … نسأل الله ان يعيد لصديقنا رشده .. انهم لا يشبهونه اطلاقا وحتى دفاعه عنهم في الفضائيات تحس انه من طرف لسانه ، حالة من الغيبوبة او (مكاواة ) وليس من قلبه وكامل رشده !
وأشعر بالأسى عندما نفاجأ ، بجيل الشباب الواعد الذى ساهم بفعالية وكفاءة في رتق الصفوف في تلك المراحل الحرجة ،وتحمل المسؤولية في أقسى الظروف ، ان يتبنى مواقف لا تشبهه وتتعارض مع تضحياته التى صقلته في ازمات مايو ويونيو ، واخص بالذكر الصديق الشفيع خضر وحاتم قطان والعقد النضيد من الاطباء :
بروفيسور مصطفى خوجلي، د. أحمد بابكر تلب، د. عبد المنعم الطيب، د. نجيب نجم الدين، د. نعمات خضر، د. أبو ذر محمد علي، د. مأمون علي صالح، د. ربيع الجاك، د. أمجد فريد الطيب، د. مجدي الجزولي، د. مأمون عثمان أحمد نصر، د. مرتضى التهامي، د. هند إبراهيم عبد الرحمن، د. الفاتح عثمان سليمان، د. خالد عثمان طوكر، د. عزة الشفيع ، د. نهلة جعفر، د. محمد الحسن عثمان ود. إسماعيل عز الدين أبو جلابية.
بالطبع هناك من يتململون وينتقدون اداء حزبهم من موقع المسؤولية ، ويأتى موقف الاستاذ كمال الجزولي ، باستقالته من المكتب السياسي واللجنة المركزية ، تعبيرا عن الأزمة المتصاعدة في الحزب، كما يشكل قرار الاستاذ كمال نموذجا ناضجا لكيفية التعامل في الازمات المصيرية ، وهو موقف كنا نتمنى ان يتبناه كل المغاضبين .. ترك المناصب يجوز .. ترك الحزب ..لا ، فهو لا يخضع لملكية أحد .. تراث وانجاز وميراث اجيال … لذلك تسمو المواقف المبدئية فوق كل الجراحات ..!

في مراحل الازمات الكبرى ، التى يمر بها السودان وتنظيماته السياسية ، قد يكون من الافضل ان يتصدر المشهد السياسى وقيادته من هم أقل بريقا ، وأكثر صلابة وأقدر على المزيد من التضحيات ، وهذا لاينفى انطباق هذه الصفات على الكثيرين . لكن لا ترقى الخلافات الحالية الى التصعيد وتقديم الاستقالات ..كما لا تشكل القيادة الحالية عوارا ، وانما تجسد المزيد من الاصرار على الصمود والمواجهة .ويكفي ان شيخها وفي الثمانين من عمره، المهندس صديق يوسف ، يتنقل كل يوم من سجن لآخر. وفى آخر تصريحات مدير الأمن التهديد بالمزيد من الاجراءت ضده وحزبه ويمتن عليهم بعلانية نشاطهم , لكنهم كما يقول ” غير راغبين في الحوار الوطنى ولم يشاركوا في الانتخابات الاخيرة ”
التحية لجيل الـتأسيس ، من قضى نحبه ومن يبتظر … ووقفة اجلال وحب للاستاذ التجانى الطيب في الذكرى الخامسه لرحيله ، واقتبس من مرافعته امام محكمة الدولة ، اكتوبر 1982 ولعلها المرة الأولى والاخيرة التى يتحدث فيها عن مواقفه وقناعاته :
(ظللت مدافعا ومناضلا منذ الصبا الباكر، اي قبل اكثر من اربعين عاما، و الفضل يعود الى جيلنا العظيم جيل الشباب الذي حمل اعباء نهوض الحركة الوطنية و الديمقراطية الحديثة. و انني اعتز بانني كنت من المبادرين و المنظمين البارزين لاول مظاهرة بعد 24 و هي مظاهرة طلاب المدارس العليا في مارس 1946، و اعتز بانني كطالب في مصر اديت نصيبي المتواضع في النضال المشترك مع الشعب المصري الشقيق ضد الاستعمار و حكومات السراي و الباشوات و نلت معه نصيبي المتواضع من الاضطهاد باعتقالي سنة و قطع دراستي، واعتز بانني شاركت مع رفاق اعزاء في كل معارك شعبنا من اجل الحرية و التقدم الاجتماعي و الديمقراطي، و قمت بدوري المتواضع في بناء الحركة العمالية و تنظيماتها و نقاباتها و الحركة الطلابية و اتحاداتها، و اعتز بانني في سبيل وطني و شعبي شردت و اعتقلت و سجنت و لوحقت و انني لم اسع الى مغنم ولم اتملق حاكما و لا ذا سلطة و لم اتخلف عن التزاماتي الوطنية كما اعتز بانني ما زلت مستعدا لبذل كل تضحية تتطلبها القضية النبيلة التى كرست لها حياتي، قضية حرية الوطن و سيادته تحت رايات الديمقراطية و الاشتراكية. و لست اقول هذا بأية نزعة فردية فانا لا اجد تمام قيمتي و ذاتي و هويتي الا في خضم النضال الذي يقوده شعبنا و قواه الثورية، الا كمناضل يعبر عن قيم و تطلعات و اهداف ذلك النضال، الا عبر تاريخ شعبنا و معاركه الشجاعة التى بذل و يبذل فيها المال و الجهد و النفس دون تردد في سبيل الحرية و الديمقراطية و التقدم الاجتماعي، انني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المجيد و هذه القيم و التطلعات النبيلة. ان هدف السلطة من تقديمي لهذه المحاكمة ليس شخصي بالدرجة الاولى و انما مواصلة مساعيها لمحو التاريخ الذي امثله و التطلعات التى اعبر عنها.. و لكن هيهات. وشكرا على سعة صدركم
بعد هذه المرافعة حكمت عليه المحكمة بالسجن عشر سنوات !
التحية لذكراه ولاسرته..وأمنية ان يكون ما كتبناه مبادرة لتنفيس الهواء الساخن من الصدور و لتوحيد الصفوف مجددا !

بقلم : بدرالدين حسن علي