تحقيقات وتقارير

قمار في وضح النهار..!

بؤس أخلاقي أتى على غيبة من العدالة أظهر نتوءاً على البنية الاجتماعية في السودان، حيث تجلت مظاهر هذه النتوءات في بزوغ فئات مجتمعية ذات نزعات غير أخلاقية أسست لها وجوداً في الخارطة الاجتماعية السودانية مؤخراً . تموضعت تلك الفئات على هامش الحياة مستظلة دوماً بغياب حقوق المواطنة وافتقار المعمار البشري والسند الوجداني من المجتمع، ولكنها تميزت على بقية الشرائح الاجتماعية الأخرى بفرادة صادقة وصبر على تحمل المشاق الذي منيت به، حيث برزت فرادتها في ترجمة ويلات الظلم الاجتماعي نتيجة افتعال الحراك الطبقي الرأسي عن طريق شبكة نفوذ كبيرة تمثلت في الولاء والمنسوبية قابله تهميش لها علاوة على فقدانها حصتها من النفعية الاقتصادية.

الحلقة الأولى

هوايات منحرفة..!
ومن هذه الفئات فئة النيقرز، أطفال الشوارع، الشحاذين، اللقطاء وأصحاب الورنيش..بعض من هذه الفئات شكلت تطرفاً اجتماعياً بمزاولة سلوكاً منحرفاً ظهر هذا السلوك في أنشطتهم وهواياتهم، ومن الهوايات التي يمارسونها لعبة الميسر (القمار) التي حظيت باهتمام هذه الفئات السالفة الذكر، حيث توغلت داخل الشرائح أو الفئات الاجتماعية هذه، فوجدتها تلعب الميسر وتراهن عليه بالغالي والنفيس.
جددت العزم على تنفيذ رغبتي مرة ثانية في دخول العمق لهذه الشرائح الممارسة للميسر بعد أن تناهت إليَّ بعض الأنباء والأحاديث المتناثرة هنا وهناك، والتي تحمل في طياتها كلمات الميسر أو (القمار) وبالفعل تصيَّدت هذه المجموعات التي تمارسه فوجدت كل الفئات التي جاء ذكرها في المقدمة قد أدمنت ممارسته، فكل أنحاء العاصمة يزاولون لعبة خاصة في الشوارع ومجاري الصرف الصحي والأماكن القذرة، وما لفت انتباهي هو أن هناك ميقات زماني جرت العادة عليه من لاعبيه يقيمون فيه الرهانات الكبيرة ويتجمعون بأكبر عدد، ألا وهو يوم الجمعة.

قمار بـ(نواة) العرديب..!
كل المجموعات التي وقفت عليها تلعب الميسر باستخدام “نواتين” من ثمار (العرديب ) السوداء اللون، حيث يكسرونها إلى نصفين فيصبح لون باطن نصفها المفلوق أبيض وظهره يكون على حالته السوداء فتعطينا النواة نصفين وبفلق النواتين نتحصل على أربعة أنصاف “أجزاء ” كل نصف له لونين، فبذلك يصير مثل العملة له وجهين يختلفان في اللون فاختلاف اللونين هذا، يتحكم في معطيات اللعبة من حيث الفوز أو الخسارة .

أبيض وأسود..!
حالة الكسب والخسارة تكون من خلال الرمية الواحدة، فحالة الكسب أو الربح تكون في حالة ظهور الأربعة أنصاف “أجزاء ” على الوجه الأسود، أو ظهور الأربعة أنصاف على الأبيض الباطني، أو ظهور نصفين بالوجهين الأبيضين والنصفين الآخرين بالوجهين الأسودين، أما حالة الخسارة تكون في ظهور نصف واحد بوجه لونه يختلف عن الثلاثة أنصاف الأخرى، مثلاً عند رمي أربعة أنصاف من نواة ثمار العرديب ظهر على سطح الطاولة ثلاثة أنصاف بوجه لونه أسود والنصف الرابع على الوجه الأبيض، فهذا الرامي قد خسر الرهان، شرح لي أحد الشباب طريقة لعب الميسر المتفق عليها لدى معظم المجموعات اللاعبة للقمار قائلاً : يتفق لاعبان أو أكثر على رهان معيَّن وبعد الاتفاق يخرج كل لاعب الرهان المتفق عليه مثلاً :”إذا اتفق خمسة متنافسين على رهان بخمسين جنيهاً، فإذن كل واحد منهم رهانه يكون عشرة جنيهات “.
ثم يرمي الأول أنصاف النواتين على الأرض أو على الطاولة، فإذا ظهرت الحالات التي يستوجب فيها الربح فإنه يأخذ من منافسيه الرهان الذي اتفقوا عليه، وإذا لم تظهر حالات الفوز وظهرت حالات الخسارة فيتأجل أخذ الرهان إلى الثاني، ثم الثالث حسب عدد المتنافسين وظهور حالتي الخسارة .

لعبة محكومة..!
لدى لاعبي القمار لعبة ذات شروط وصارمة تسمى “لعبة محكومة “، حيث يضيقون فيها الخناق على المتنافسين وذلك بتحديد مبلغ معيَّن يكونونه من جمع مبالغهم المرهونة فيضعونه على الطاولة، ويلعبون عليه، بالإضافة إلى إلزام الكاسب أو الفائز بإتمام اللعبة حتى نهاية جرد كل المتنافسين من أشيائهم بما فيها المبالغ إذا كان الرهان نقوداً وفي هذه الحالة أما اللاعب كسب كل شيء أو خسر كل شيء.
مصطلحات شائعة وسط لاعبي القمار..!
هناك بعض الكلمات تم استخدامها من قبل لاعبي القمار وأصبحت متداولة بينهم مثل (ملصة) أي خسارة (خرتو) أخذ رهانه (اربيش) أي رميت وهو مصطلح ينطقه اللاعب عند الشروع في رمية أداة اللعبة (أنصاف نواتي العرديب).

من الذين يلعبون القمار؟
عندما توغلت في المجموعات التي تلعب الميسر وجدت معظم هذه الشرائح تعاني الأمرَّين الفقر والأمية، من النيقرز وأطفال الشوارع وماسحي الأحذية وغسالي السيارات، بالإضافة إلى بعض المعاشيين والتجار، جلباً للمتعة أو دفعاً للملل.
وتأكيداً لذلك نترك المداد يسيل كاتباً لنا الأسطر التالية، معبراً بها على ملفوظ لساني جاد به بعض الأفراد الذين يزاولون هذه اللعبة (القمار) بعد التماسي لهم ذكر الشرائح أو الفئات الاجتماعية التي تكرِّس معظم ثمارها المالية ومجهودها العقلي والبدني لهذه الميسر، فالأول غلام، حديثه جاءني على هذه الألفاظ :أنا امتهن طلاء وخياطة الأحذية (بتاع) أورنيش أوظف حصة كبيرة من دخلي اليومي لأراهن به في لعبة الميسر مع زملائي في المهنة (مهنة الورنيش)، وأضاف محدثي: كثير من أصحاب الورنيش يلعبون هذه اللعبة .
أما الثاني فيمتهن أيضاً مهنة الورنيش فرد جملته هذه : أخصص من دخل اليومي لأقارع به زملائي أصحاب الورنيش في الميسر، لأن ديدننا العمل من أجل الرزق والميسر من أجل تنمية هذا الرزق، وترياقاً لداء المنافسة على الميسر. إليكم شباب النيقرز، فأحدهم قال لي: لديَّ روح تنافس عالية مع مجموعات أخرى من النيقرز في لعبة الميسر ونقضي معظم وقتنا النهاري في لعب الميسر.

إدمان شديد ..أين المفر؟
ويؤكد شاب آخر من النيقرز على المرض الذي أصابه جراء إدمانه الشديد على لعب الميسر قائلاً: صرت مهووساً بهذه اللعبة فكلما أخسر يزداد تصميمي على الاستمرار في لعبها..! بعد استماعي إلى تلك القصص، استطعت الاقتراب من مجموعة تلعب الميسر بعد أن جاءني العلم من أحد الأشخاص عنها فكان صدق هذا الشخص ماثلاً أمامي بعد أن شاركتهم المجلس، فسألت منهم شخصاً بعد أن اختلف إلى بائعة شاي عن مهنته، فرد قائلاً: المجموعة التي رأيتها تجلس القرفصاء للميسر كل أفرادها سُرحوا من العمل الحكومي، فمنهم من كان في الخدمة المدنية، وأكثرهم كان في الخدمة النظامية، وأيضاً دلفت إلى مجموعة تراهن بثمن باهظ، فعندما دخلت في لفيفهم واستخبرت عنهم وجدتهم تجار بضائع في أحد الأسواق الشهيرة بالعاصمة.

الأشياء التي يتراهنون عليها
من الأشياء التي رأيتها وشدت انتباهي لدى لاعبي القمار يجرون المراهنة بها لكسبها، هي: النقود والهواتف (الموبايلات) والذواكر والأحذية والملابس، وأكد لي ذلك لاعب قمار قائلاً : عند التنافس في القمار نتراهن بكل شيء نمتلكه، وأضاف: هناك أشخاص يضعون السجاير والتمباك للمراهنة.

إصابة الربح..!
من مسلمات هذه اللعبة (القمار) الربح أو الخسارة، فالربح فيها يكون كبيراً وفقاً لكمية الأشياء المراهن بها، فإذا كان الرهان كبيراً فالفائز ربحه يكون كبيراً، وإذا كان الرهان صغيراً فالفائز ربحه يكون بسيطاً. سألت أحد الأطفال يباشر القمار عن إذا كان قد أصاب ربحاً منه، أي، (القمار) فأجابني : ذات مرة راهنت بخمسين جنيهاً، فكسبت ستمائة جنيه. وأضاف: وأيضاً في لعبة ضمتني مع سبعة منافسين تغلبت عليهم فكان ربحي 400 جنيه، وكنت قد وضعت رهاناً بقيمة عشرين جنيهاً، وعن خسارة تعرض لها من هذه اللعبة، فقال محدثي : كسبت كثيراً وخسرت كثيراً، وأردف: هذه سنة اللعب التنافسي الربح أو الخسارة، سألت أحد غسالي السيارات قائلاً له : هل كسبت من لعبة القمار شيئاً؟.

موبايل جلاكسي..!
فأجاب دخلت مرة لعبة القمار بـ300 جنيه، مع ستة منافسين فكسبت 3000 جنيه، ومرة راهنت بجهاز (موبايل جلاكسي)، فاستعطت أن أكسب به خمسة أجهزة من نفس النوع، وأضاف: ولكن تعرضت للخسارة كثيراً. استفهمت واحد من التجار محترفي الميسر عن ربح جاءه من لعب الميسر فرد : راهنت بـ4000 جنيه، فجنيت 28 ألف جنيه، ومرة لعبت الميسر بـ6000 جنيه، مع خمسة لاعبين ففزت عليهم، فكان ربحي ثلاثين ألف جنيه. وأضاف آخر: راهنت تسعة أفراد في القمار بخاتم من معدن الفضة، فكسبت تسعة مثله، وخلال مشاهدتي لعدد من المجموعات التي تلعب الميسر رأيت ثلاثة أطفال يفوزون، الأول كسب ملابس (بنطلون وقميص) والثاني وقف معه الحظ، فكان مكسبه 250 جنيهاً، والثالث نال من منافسة أربعة أشخاص معه ذاكرة هاتف ورصيد لشبكة” زين” بقيمة أربعين جنيهاً. وأضاف محدثي: وجدت أناس ينازلون آخرين في الميسر فيكسبون مواتر وأسورة ذهب .

نصيب سيء الحظ..!
أوردت في الخط الجانبي السابق الربح، فإذا كان هنالك ربحاً فلابد أن تكون هناك خسارة تكون من نصيب سيئ الحظ، لأن أي شخص يلعب الميسر فسوف يخسر وتطول هذه الخسارة حتى تقضي على كل شيء يكون بحوزته من بيت أو سيارة أن كان يملك سيارة، استنطقت طفلين يلعبان الميسر كثيراً عن خسارات مُنيا بها، فالأول قال : تعرضت للخسارة عدة مرات، وأذكر منها على سبيل المثال ولجت ذات يوم جملة من لاعبي القمار فجرى بيننا اتفاق على رهان قدره سبعين جنيهاً، ولكن منيت فيه بالخسارة، ثم راهنت بخمسين جنيهاً، مع نفس الأشخاص، فخسرت أيضاً ثم زادت فيَّ روح التحدي فأخرجت مئة جنيه فتراكمت عليَّ خسارة أخرى ثم ظهرت رغبة ألحَّت عليَّ للرهان بقميصي بعد أن نفدت نقود فخسرت قميصي.

راهنت بحذائي وخسرت..!
وعندما سألته لما تراهن في كل مرة وأنت تخسر وتعلم جيداً أن الحظ اليوم لن يكون حليفك؟ فأجاب الطفل : أصبحت مدمناً لهذه اللعبة، وأردف: كلما تعرضت للهزيمة تزداد إرادتي وعزيمة للتنافس. أما الطفل الآخر فقال لي: خسرت خسارة مهينة لم يجرؤ الدماغ على نسيانها، وذلك عندما راهنت بمئتي جنيه، طمعاً للفوز، وأيضاً لثقة الزائدة في الإطاحة بعدوي، ولكنه ألحق بي خسارة وشعرت بغضب شديد فخلعت حذائي وراهنت به، وأيضاً حظي جاء خسارة، هذه هي الخسارة الوحيدة التي خسرتها بمبلغ كبير، وأردف: الآن أصبحت أراهن بخمسة أو عشرة أو عشرين جنيهاً، خوفاً من خسارة أخرى أكبر من التي ذكرتها لك. شاب ذكر لي خسارة مريرة تعرض لها جراء لعب الميسر قائلاً : خسرت رهان بستة آلاف جنيه، ثم دفعتني رغبة أخرى في التنافس آملاً تعويض خسارتي، فراهنت بجهاز (موبايل) قيمته أربعة آلاف جنيه، فأيضاً خسرته.

الخسارة اضطرته لخلع بنطلونه وقيمصه .!
وحكى لي صبي إنه خسر في نزال من نزالاته في القمار نقوده وخلع قميصه ففقده، ثم جاء دور بنطلونه فخلعه وراهن به فخسره أيضاً.. من القصص الغريبة، كذلك شاب يمتهن غسيل السيارات، قال لي: جمعت مبلغ قدره ألفي جنيه، وقارعت به أفراد وحظيت في الجولة الأولى باثنتي ألف جنيه، وبعد ساعة نزلت في لعبة أخرى مع منافسين آخرين في أولى جولاتنا، الرهان كان لكل شخص أربعة آلاف جنيه، خسرت هذه الجولة فدفعت نقودي للكاسب ثم اتفقنا على نزال ثانٍ فأخرج كل واحد منا ستة آلاف جنيه، فخسرتها وأخيراً تبقت لي ألفي جنيه، ثم راودني أمل في زيادتها فوضعتها على الطاولة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن خسرتها أيضاً، وأضاف محدثي: لعبت الميسر كثيراً خسرت وربحت، ولكن هذه الخسارة التي ذكرتها لك أصبحت محفورة في ذاكرتي.

شاب سرق موبايل أخته وآخر يسرق أمه..!
أثناء مراقبتي لعبة من لعبات القمار إذا بأم لطفل، ينازل في اللعبة التي أراقبها، تأتي وتضرب طفلها متعللة بأن ابنها سرق النقود التي خصصت لفطور الأسرة، فبهذه الحادثة تكون هذه الأم قد جرت إليَّ بسؤال ظللت أسأله لكل من تسنح لي فرصة استنطاق معه من مدمني الميسر، سألت أحد محبي القمار الذين تجولوا في مناطق عديدة بالعاصمة من أجل لعبة عن إذا كان من بين لاعبيه لصوص يسرقون ويلعبون بالذي سرقوه، فأجابني مندهشاً حتى ظننت أن فراسته قد أصابت على معلم من معالم الهوية المهنية، ولكن، ابتسامة زالت الشك الذي راوده: معظم الأطفال الذين يلعبون الميسر لصوصاً، لأن هذه اللعبة تستنزف نقوداً كثيرة، فلذلك أجور العمل لا تكفي للنزال كل مرة ربما تخسر وربما تربح، وإذا ربحت فسوف تخسر فيضطر لاعب الميسر للسرقة، وسمعت أحد الأطفال في مكان القمار يقول لصاحبه : أنا اليوم سرقت من أمي خمسين جنيهاً، لألعب بها الميسر فرد الآخر: أنا أيضاً “أكلت” أي سرقت ذاكرة أخي، وأيضاً عند قيامي بهذه المهمة (قمار في وضح النهار) عثرت على مجموعة منهم في عراك دامي تعرض من خلاله شاب بطعنة سكين، وعندما تقصيت الحقيقة وجدت أن الشاب المطعون قد سرق هاتف أخت الشاب الطاعن أو الجاني .

رهان بعشرة جنيهات..!
وجدت أن ممارسي الميسر يقترضون أي (يديَّنوا) كثيراً ومن منافسيهم خاصة في حالة الخسارة، فالخاسر الذي تنفد أشياء رهانه يلجأ إلى استلاف نقود من الفائز على أمل الكسب، وأكد لي لاعب من لاعبي (القمار) أنه يستقرض كثيراً في حالات الخسارة التي يتعرض، لها سألت أيضاً، طفلاً يمارس القمار كثيراً عن دين عليه أو له، فقال: عليَّ دين وقعت فيه عندما خسرت رهاناً بعشرة جنيهات، فطمعت في الفوز بعد هذه الخسارة فجريت على نفسي ديناً بقيمة ثلاثين جنيهاً. وأضاف: معظم لاعبي القمار يقعون في ديون.

تحقيق : مبشر بليحة
صحيفة التيار