المقالات

فركة ما بين الرواية والسينما


هذا المقال حتمته ظروفي الصحية وملازمتي لمجموعة أصدقائي من المستشفيات ومرضى السكري والضغط والسرطانات “كتر خيركندا وجميع العاملين والأطباء والسسترات” ووحدتي القاسية ، وأدعو بالشفاء لمرضانا ، ومن الأمور المؤلمة أن لا تجد شيئا مفيدا لتقرأه فتعيد كتابة ما قرأته .
فركة رواية من تأليف طه الخليفة جعفر، فازت بجائزة الروائي المبدع الطيب صالح مناصفة مع
الروائي “هشام آدم ” بالمناسبة روائي مبدع قرأت بعض رواياته في النت -غذاء الفقراء -فأعجبتني ”
قصة تعرفي على طه تصلح أن تكون إحدى قصص ألف ليلة وليلة ، ففي أمسية من أماسي تأبين الراحل زيدان ابراهيم تعرفت على زوجته الرائعة خفيفة الدم إلهام عبدالخالق البكري التي ساهمت بغناء غير عادي هي والفنان هيبة والفرقة الموسيقية في تورنتو وتضم موسيقيين ومطربين فطاحلة ولا أريد أن أغرد خارج السرب فأذكر الأسماء .
بعدها حضرت أمسية ثقافية تحدث فيها طه عن روايته فركة وبحضور لفيف من االمثقفين السودانيين ، كانت رواية فركة قد ضلت طريقها إلي فغامرت بحضور الأمسية ، كما طالعت مقالات البعض عن الرواية .
عندما أعطاني طه الخليفة روايته ” فركة ” ظلت معي عدة شهور ، وقرأتها عدة مرات ، أكثر من قراءتي ل ” موسم الهجرة إلى
الشمال ” وقد تسببت في دعوة أصدقائي لقراءتها وإعادتها على غير عادتي ، لكن أهم ما فعلته
فركة أنني ” فركت ” عيني جيدا كي أتمكن من قراءتها ، فقرأت المزيد من الروايات من محتلف دول العالم .
لم أكن أعرف طه فزرته ـ كريما مهذبا مثقفا هادئا -“كفاية والا
أزيد ؟ “وخرجت من عنده أتأبط الرواية وونسة ظريفة مع تاجو ومحجوب وعشاء دسم من صنع إلهام
وسوسن ،
كثفت مطالعتي لمقالاته وقصصه ،عيناك متعبتان ، هنادى ، إمراة لا تعرف الخوف ، الكضب ملح الأرض ونظرات حزينة ، يكتب بحس درامي جيد ذكرني بعمالقة الكتاب المسرحيين ووجدته هو وزوجته من أروع الشيوعيين ، طه ملتزم بالفكر الماركسي ،مدافعا صلبا ،ومن الواضح أنه قرأ كثيرا عن الماركسية ، لكني أتعامل مع الكتاب والفنانين المؤدلجين بحذر شديد وخجل ثوري ،
وقبل أن أبدأ في الحديث عن فركة أرى من الواجب في البداية طرح السؤال :ما هو مفهوم الرواية ؟
تعد الرواية من أهم الأجناس الأدبية التي حاولت تصوير الذات والواقع وتشخيص ذاتها إما بطريقة مباشرة وإما بطريقة غير مباشرة قائمة على التماثل والانعكاس غير الآلي، كما أنها استوعبت جميع الخطابات واللغات والأساليب والمنظورات والأنواع والأجناس الأدبية والفنية الصغرى والكبرى إلى أن صارت الرواية جنسا أدبيا منفتحا وغير مكتمل وقابلا لاستيعاب كل المواضيع و الأشكال والأبنية الجمالية .

قرأت رواية ” فركة ” للروائي طه الخليفة كما قلت عدة مرات وتأخر مقالي هذا لظروف صحية ، بعد قراءة الرواية خرجت بنتيجة هامة جدا : حين تقرأ لطه أو حين يكتب طه يتملكك شعور فوري بأن طه مبدع سوداني رائع وملم جيدا بالتاريخ السوداني خاصة ما يسمونه ” المسكوت عنه ” ولكن بافق
ملتزم ، أحسده على غزارة معلوماته ، وطالما بيننا أمثال طه فلا خوف على الرواية ولا على الأدب السوداني -أكان – مسرح أو
سينما ، فطه يعرف وبحسه الإبداعي المتواضع كيف تصل الكلمة إلى أقصى مداها من دون أن تفقد قدرتها على الإثارة وتعرية ” المسكوت عنه ” ، بل أن طه يدرك أن كل حرف له دلالته ، طه بإختصار شديد إضافة حقيقية للإبداع السوداني وأتنبأ له بمستقبل مشرف جدا في عالم القصة والرواية والأدب بشكل عام ، كما أنه على خلق عظيم ورقي في الأسلوب والشفافية

تعجبني الأعمال الأدبية والمسرحيات والأفلام السينمائية و الروايات ذات الكلمة الواحدة ، لأنها تعني لي أشياء كثيرة ، من ضمنها عدم الثرثرة التي تشبه أصوات البراميل الفارغة ، ولذا أحببت ” فركة ” .

ولأني أتوقع أن تحدث الرواية في الزمن القريب صيحة داوية في المدرسة الروائية السودانية كتلك التي أحدثها الطيب صالح .

فركة الرواية
تصور الرواية رحلة الشابة الجميلة الرائعة ” فركة ” المختطفة من كاسي في الغرب السوداني المتنوع إلى شندي في الشمال حيث كل أشكال البهرج المترف في زمن ما ، وهنا أود التنبيه إلى أهمية التاريخ والصراع الأبدي ضد الرق والإقطاع وحب التملك ، وبالقطع هيمنة اللون غير الأسود ” مع إنو كلو سواد في سواد كما يحلو لصديقي حاتم أن يقول ” ، والذي قد يكون هو الإستعمار في لباس آخر لا يلقى منا سوى الإستخفاف و الإزدراء والتحقير .
طه لم يقدم لنا درسا عن الرق ، ولكنه قدم لنا رواية أو لنقل قطعة أدبية عن الرق ، فلا تملك وبكامل وعيك إلا أن تتعاطف مع ” فركة ” بل تدافع عن شرفها وتمسكها بقيم الحق ، لأن ” فركة ” في النهاية إنسانة تستحق الوقوف إلى جانبها ، وأحب التنبيه أن ” فركة ” لا علاقة لها ” بالقرمصيص” .
لا أريد أن أفسد متعة قراءة رواية ” فركة ” وقراءة الوصف الباهر الذي تميز به طه .

طه عندما حاول معالجة الرق في السودان من خلال روايته ” فركة ” كان في ذهنه أن يحاول قدر الإمكان كتابة التاريخ غير المكتوب و تقريباً التاريخ الرائج والسائد الآن مثل قول رئيس جمهوريتنا وهو يصف ناس الحركة الشعبية أنهم
حشرات !، هو حاول أن يكتب تاريخاً موازياً للناس المجهولين وللحياة التي كانت سائدة
آنذاك ، ولهذا السبب نشأ نوع من الصراع ونوع من المعاناة الكبيرة، بحيث أن الناس تعاملوا مع الأحداث بالكثير من الصدق والنبل ، وحتّى غياب الناس على أساس أنّ عصرهم قد انتهى، لا يعني غياب المشكلة أو غياب الناس نهائياً ، طه أراد تبصير الناس وأن يقول ، إنّ المشكلة فيها وجع وفيها فجيعة وتتطلب انتباه بالضرورة، اعود ثانية لصديقي حاتم فقد طلب منه أحد الجنوبيين أن يعطيه دولارين وكان إعتاد أن يعطيه بعض المال وهما في السودان فقال له : شوف يا دينق نحن هنا في أمريكا بعاملونا كلنا كعبيد والكلاب بتهوهو فينا !
صراحة طه له أسلوب أخاذ في الوصف ، إنه أسلوب غبريال غارسيا ماركيز أعظم روائي في أمريكا الجنوبية وفي
العالم
، وبالطبع عدد كبير آخر من أروع الروائيين في أميركا اللاتينية وأوربا من أصول إفريقية .
الرواية من 154 صفحة من القطع المتوسط ، بمعنى آخر رواية
قصيرة ، رواية زاخرة بالشخصيات والتفاصيل الصغيرة بلغة مدهشة في الوصف ، تدور أحداثها بين “كاسي” و ” شندي ” أي بين الغرب والوسط العربي السوداني ، طبعا مع عدم التركيز على الناحية الجغرافية ، طه لم يهتم بنقل الواقع كما هو ، إنما تداعيات ذلك الواقع وما تمخض عنه من مشاهد مأساوية مؤلمة ، ويصعب جدا محاكمة طه فيما فعله وقاله ، لأنه ببساطة كاتب روائي وشاعر أيضا ، قتل الرجل الروائي الرجل الشاعر ، طه ليس أستاذا في التاريخ وباحثا في الآثار وبمقدوره أن يكون كذلك ، لم تعجبني نهاية الرواية ، إذ أرى فيها بعض الإستعجال الذي حول فركة إلى شخصية إنهزامية تعتمد على السحر والكجور خاصة في مشهد عودتها إلى أهلها في كاسي بعد معاناة قاسية في شندي ولا أدري لماذا حشر طه أسطورة ” أبو
لمبة ” المعروفة في التراث الشعبي السوداني ؟ ولماذا أهمل مثلا شخصية تيه ود موسى ود شريف ود رحال إبن عم فركة مع إنها كان من الممكن أن تكون شخصية محورية في الرواية .
موضوع الإسترقاق والكتابات الخجولة في التاريخ السوداني البعيد والقريب يدعو للإستغراب رغم أنه واضح وضوح الشمس ، يقترن بعنصرية لا تفوت على الإنسان الذكي ، وابتعد عنها المسرح والشعر كما إبتعدت السينما ، ولذا كان من المؤمل أن لا تبتعد الرواية رغم الجهد الملحوظ ، ولهذا يستحق الجهد والشجاعة التي أبداها طه التقدير والإحترام ، ومهما يكن الأمر فإن رواية فركة مدهشة جدا .

تبقى ملاحظة مهمة جدا ، النقد الأدبي هو فن تفسير الاعمال
الادبية ، هذا ما درسته وعرفته وأنفقت عليه أموالا طائلة , والأدب سابق للنقد في الظهور ، ولولا وجود الادب لما كان هناك نقد ادبي لان قواعده مستقاة ومستنتجة من دراسة الادب ،ان الناقد ينظر في النصوص الادبية شعرية كانت او نثرية ثم يأخذ في الكشف عن مواطن الجمال والقبح فيها معللاً مايقولة ومحاولاً ان يثير في نفوسنا الشعور بان ما يقوله صحيح، و هو اقصى ما يطمح الية النقد الادبي ، لانة لن يستطيع ابداً ان يقدم لنا برهاناً علميا
يقيناً ، ولذا لا يوجد عندنا نقد ادبي صائب واخر خاطئ وانما يوجد نقد ادبي اكثر قدرة على تأويل العمل الفني وتفسيره من غيره ، واختلاف مناهج النقد معناه اختلاف في وجهات
النظر ،والذوق هو المرجع الأول في الحكم على الأدب والفنون لأنه أقرب الموازين والمقاييس الى طبيعتها،ولكن الذوق الجدير بالاعتبار هو الذوق المصقول لذوق الناقد الذي يستطيع أن يكبح جماح هواه الخاص الذي قد يجافي الصواب ، إن المتعة الحقيقية في رواية فركة تكمن في قراءتها وليس التنظير والشرح واستعراض العضلات ولا حتى توزيع المجاملات ، لابد أن يتمتع الناقدبعدة صفات في طليعتها الثقافة والمعرفة والقدرة على التحليل والكشف عن ما بين السطور .
من هذا المنظور فإنني أدعو لقراءة فركة والتعمق في مكوناتها ، والمكسب الحقيقي سواء لطه أو لنا هو القراءة ثم القراءة المتأنية ، فقط أرجو في الطبعة القادمة للرواية معالجة النهاية بأفق غير إنهزامي ، لأنها مشروع فيلم سينمائي توثيقي ناجح يكمله السيناريو
المتخصص .

بدرالدين حسن علي