عثمان ميرغني

من حطَّم المرسم؟!


الإمبراطور الأثيوبي الراحل هيلاسلاسي تبرع لجامعة الخرطوم بقسم لدراسة اللغة الأمهرية، ويتحمل كامل تكاليفه.. لكن بعد فترة قصيرة عاجله انقلاب عسكري أطاح بحكم الإمبراطور.. فكان من أوائل القرارات التي (ارتكبها) النظام الانقلابي الجديد إلغاء المنحة الأثيوبية.. منحة قسم اللغة الأمهرية.. الدكتور جعفر ميرغني علّق على القرار قائلاً: (هذا هو الفرق بين السوقة.. والنبلاء).
طبعاً النبلاء يهتمون بالثقافة، وترقية الذوق العام، بينما (السوقة) هم الذين ينظرون إلى الثقافة، والآداب من مقياسها المادي كأي محل تجاري، كافيتريا، كوافير، كافيه.. أو ما شابه.

أمس حملت أخبار الخرطوم نبأً غريباً.. إزالة مرسم للفنون التشكيلية (عزيز قلري)، جوار فندق “كورال” حالياً، و”هيلتون” سابقاً.. وظهرت في الصور أطلال المرسم.. والسيدة مديرته، وهي تبكي بألم أمام المرسم المدمر.
وأسباب الإزالات المتواصلة في كل المدن السودانية لا تخرج من حيثيات (ديوانية) تتعلق بأوضاع قانونية أو إعادة التخطيط.. ولا اعتراض.. لكن!.
دعوني أسأل بكل براءة.. كم مرسماً في كل هذه العاصمة التي تضم بين جناحيها أكثر من سبعة ملايين نسمة؟.
حتى كلمة (مرسم) تبدو غريبة على غالبية الناس- وربما- يعدّها البعض واحداً من عنوانين الرفاهية البازخة.. فيكون السؤال المحير.. ألم يكن ممكناً (حل) مشكلة المرسم بدلاً عن تدميره؟.

اتصلت هاتفياً مساء أمس بالفريق أحمد أبو شنب معتمد محلية الخرطوم.. أكد لي أنه لا علاقة له بهذا القرار؛ لأنه صدر من وزارة التخطيط العمراني.. التي تعاقدت مع شركة أجنبية لتشييد حديقة كبرى مفتوحة لجميع المواطنين بمساحة أكثر من (30) ألف متر مربع.
المعتمد قال لي: إنه يوافق على منح مديرة المرسم موقعا بديلا في أي مكان تختاره في ذات المنطقة (شارع النيل بالمقرن).. مع تعهد أن يستوعب في الحديقة ذاتها بعد تشييدها.

الاهتمام بالفنون واحد من واجبات الحكم الرشيد، والملاحظ في عاصمتنا جفافها الحضاري.. تكاد تخلو من المسارح، والسينما، ودور العرض، حتى ساحات الترويح المفتوحة مثل كورنيش النيل تبدو فقيرة إلى أبعد مدى.. بالله عليكم هل رأيتم الآلاف المنتشرين على طول كورنيش النيل من برج الاتصالات إلى جامعة الخرطوم؟.. ألا يجدر السؤال.. أين يقضي هؤلاء حاجتهم؟، أم هم صنف من البشر منزه عن حاجات البشر؟.. هذا فقر حضاري مستحدث.. فالخرطوم لم تكن هكذا في الماضي.. كانت مدينة تعجّ بمظاهر المدنية الحديثة، حديقة جميلة للحيوان دائماً مزدحمة بالرواد.. مقاهي مشهورة يرتادها الجميع بلا استنكاف.. لكن يد الدهر امتدت لتحطم كل جميل.

انظروا إلى المجلس التشريعي بولاية الخرطوم الآن.. مسخ مشوّه قام على أطلال البرلمان السوداني، الذي شهد أشهر الأحداث في التأريخ.. ويشبه في قاعته البرلمان البريطاني الذي ظلّ لقرون طويلة بنفس تصميمه، وهي الدولة الغنية القادرة على إعادة تشييده بآخر مستحدثات العصر.
سؤال محرج للغاية.. عندما يزورك ضيف أجنبي فيسألك.. أين نقضي هذا المساء؟،
الفقر ليس عوز المال.. بل عُسر الخيال.

عثمان ميرغني
صحيفة التيار