عثمان ميرغني

جهاز “الكشافة” والمخابرات الوطني


قبل أكثر من عشر سنوات، عندما كانت مفاوضات “نيفاشا” تفتح ملف (جهاز الأمن الوطني والمخابرات) كتبت في “حديث المدينة” ناصحاً ترك أربع مؤسسات تنمو بعيداً عن “مزايدات السياسة”.. الجيش، والأمن، والشرطة، والقضاء.

لكن منذئذ بدأت تتردد حكاية حصر مهمة جهاز الأمن الوطني والمخابرات في جمع المعلومات، وإبطال قدراته التنفيذية الأخرى.. وهي دعوة نابعة من الأحاسيس والغبن أكثر من المنطق والرشد.. كثير من الذين مروا بالمعتقلات في جولات الصراع مع الحكم الحالي.. تعرضوا إلى ما راكم في نفوسهم المرارات والألم وأحاسيس الظلم.. فأصبح في عمق تفكيرهم أن تفكيك النظام يبدأ بتفكيك جهاز الأمن.

لكن الأوطان لا تبنى بالأفكار التي تصنعها المرارات والغبن.. (من فش غبينتو، خربت مدينتو).. بل على العكس.. كلما تسامى الإنسان فوق جراحاته وأحاسيسه الخاصة.. وارتفع فوق الغبن والمرارات، رَشُدَ تفكيره وصلح أمره.

ليس من الحكمة إضعاف جهاز الأمن بإلغاء دوره التنفيذي مهما كانت الملاحظات عليه.. الأجدر أن ننظر بعين الحكمة لنحدد بدقة أين (المشكلة).. ثم نبحث عن الحل الملائم لها.

في تقديري المشكلة هي (غياب دولة القانون) وليست المشكلة في (القانون).. فالقانون– أي قانون- كائن حي قابل للتطور والارتقاء.. والحل يجب أن يكون في (سيادة دولة القانون).

نحن في صحيفة “التيار” تعرضنا مرتين إلى الظلم المرير بإغلاق الصحيفة بواسطة جهاز الأمن.. في المرتين ذهبنا إلى المحكمة الدستورية، وأنصفنا القضاء السوداني.. لكن الظلم الذي تعرضنا له لم يجعلنا نطالب بحل جهاز الأمن أو تقليم صلاحياته التنفيذية.

صحيح أن كثيرين تعرضوا إلى اعتقال تحفظي طويل في ظروف صعبة، ولم يقدموا إلى المحاكم، حسناً؛ يصبح المطلب هو تعديل القانون، وتقليص المدة المسموح بها قانوناً لمثل هذه الإجراءات.. ويصح أن يرتفع الصوت مطالباً جهاز الأمن بالالتزام بالقانون، وتحري العدل، وتجنب استخدام الإجراءات لتصبح (عقوبات) كما هو الحال في مصادرة الصحف بعد الطبع مباشرة.. لكن ليس المطالبة بأي حال بتقليص مهام جهاز الأمن بما قد يؤدي إلى فتح ثغرة خطيرة في جدران الأمن القومي السوداني.

الواقع أن أي نظام جديد يأتي إلى الحكم سيحتاج من الساعة الأولى لجهاز أمن يثبت تحت أرجله الأرض حتى لا يسقط.. وما أفشل تجاربنا التعددية الثلاث السابقة إلا ضعف الدولة لغياب أجهزة الأمن القوية.. وقد رأينا ما حل بآخر حكومة حزبية (1986-1989) بعد حل (جهاز الأمن العام) فانفرط عقد الأمن.. ونفذت عمليات إرهابية في قلب الخرطوم في فندق “أكروبول”، ثم في فندق “هيلتون” بمنتهى الجرأة والـ (لا) مبالاة.

الأجدر على المدى العام الإصرار على إرساء أسس (دولة القانون) والمؤسسية.. بضخ مزيد من التشريعات التي تحفظ استقلال القضاء، وحيدته التامة.. وفصله- تماماً- عن أي تماس مع السلطة التنفيذية.. وتطوير المؤسسة التشريعية لتكون قادرة على إنجاب مثل هذه التشريعات!.

ليس من مصلحة البلاد تحويل جهاز الأمن.. إلى فرقة “كشافة”!.

عثمان ميرغني
صحيفة التيار