-1- الساعة تقارب الثامنة صباحاً إلا دقائق معدودة ، و عجلات الطائرة التي تقلنا تصافح مهبط مطار مروي الدولي بسلام ، الأجواء لطيفة ومعتدلة ودرجة الحرارة لاتتجاوز الـ 30 درجة ، كما أشار قائد الطائرة قبيل الهبوط .
كنت في رفقة وفد من الوزراء ورجال المال والأعمال واعلاميين نُلبي دعوة كريمة قدمها لنا الأخ الخلوق والي الولاية الشمالية المهندس علي العوض ، لنشهد قصة نجاح إنتظرها طويلاً أهل الولاية خاصة والسودان عامة .
كعادتي أخذت مقعداً منفرداً لأطل من على إحدى نوافذ الطائرة ، شارداً الذهن والنظر مع الطبيعة البكر ، والشجيرات و الفيافي المترامية الأطراف ، مياه نهر النيل السلسبيل تشق الصحراء في مكابدة و عنفوان مهيب ، ولاحياة تبدو للعيان سوى ما على ضفاف النهر من خُضرة وبساتين ، النيل في بلادي هو ما يكسِب الحياة ، فترانا ننزوي الى حضنه تتوسده مُدننا و قُرانا ، في دِعة ودلال رغم هيجانه أحياناً ولكنه حنوناً علينا بكثير ، مقارنة مع الصحراء الصلِدة المنزوعة المشاعر . عندما تشاهد هذا النهر من الجوّ تدرك تماماً أنه نعمة عظيمة ساقها الله لأهل السودان ، لايمكن أن نتخيل كيف حالنا بدونه .
-2-
الرحلة تستغرق 40 دقيقة بالطائرة الى مطار مروي شمالي السودان ، ثم عدة دقائق بالسيارة لتعبر النيل عبر جسر الى مدينة كريمة العريقة .
مطار مروي الدولي الملاصق للقاعدة الجوية كان في هذا اليوم شامخاً مهيباً يعانق السماء ، الأعلام السودانية والسعودية ترفرف عليه في كبرياء ، وأسراب الطائرات الحربية تقلع وتهبط في تشكيلات متناغمة ، وهي تحتفي باختتام مناورات الدرع الازرق المشتركة بين القوات السودانية والقوات الملكية السعودية ، المشهد يعبر عن رسالة وجدانية صادقة ، تنبئك أن علاقاتنا مع المملكة العربية السعودية وصلت الى مستوى رفيع وأصبحت ( تحالفاً ) توحدت فيه القلوب والمصالح !
كانت رحلة ممتعة ، قد أثلجت صدورنا ونحن نقف على قصة نجاح المستثمر السعودي الشيخ طارق القحطاني واخوانه بشراكة مع حكومة الولاية الشمالية ، وهو يدير الماكينات الايطالية وسط بساتين كريمة الغنّاء ، ليحقق أهم نجاح في ( الصناعة التحويلية ) التي يفتقدها هذا البلد الطيب المعطاء ، رغم موارده وثرواته التي تذهب لبلدان خام وتعيدها إلينا بقيمة مُضافة ، لتحولنا من بلد منتج إلى مستهلك ، رغم أنفنا ، نتيجة عجزنا وفتور هِمتنا !
سعدنا جداً بما رأينا ، وقد بدت كريمة في ذاك اليوم كعروس بكرّ فاتنة ، ترتدي زفافاً ناصع البياض ، لها إبتسامة تسحر الألباب .
-3-
شهدنا الاستثمار السعودي السوداني الضخم بكفاءة عالية و بطاقة إنتاجية تصل إلى 400 طن في اليوم ، لتصنيع الصلصة والكاتشب والشبس والعصائر الطبيعية مائة في المائة ، هذا بالاضافة إلى تعبئة المياه الصحيّة ، بخطوط انتاج ايطالية حديثة متطورة ، تعمل تقنياً ليس هناك اي تدخل يدوي ، مع تعقيم عالي الجودة بشكل مذهل !
حيث لايمكن تشغيل ماكينات المصنع ما لم يتحقق الحاسوب من وصول التعقيم داخل الانابيب الناقلة إلى مائة في المائة !
أهم مافي هذا الإستثمار المرغوب تشجيع الانتاج الزراعي ، الذي شهد توسعاً متزامناً مع بشريات تشغيل المصنع ، الذي يقوم بالتمويل الزراعي لتوفير الخام من المنتجات الزراعية .
-4-
كان يوماً متفرداً في تاريخ ( محلية مروي ) الساحرة ، صدح فيه عمالقة فناني الطمبور ميرغني النجار وثنائي العامراب ، وأشعار حاتم حسن الدابي الشجية ( مرتاح من هموم الدنيا ماضاق السهر عينيك ياطير وا حلالي عليك ) .
وكما استهل رئيس الجمهورية كلمته مبتسماً ( ان اليوم سعودي ) . فقد كان سعودياً فعلاً يحكي عن عمق هذه العلاقات بين البلدين الراسخة الجذور .
وقد أدهشنا الشيخ الأنيق طارق القحطاني بتواضعه الجم كشيمة الشعب السعودي ، وهو مرحباً بضيوفه في خيمة أنيقة منصوبة في فناء المصنع ، واقفاً على معازيمه بنفسه ، هاشاً باشاً ، بعد أن نحر لهم الذبائح في كرم حاتمي أصيل ، كما أسعدنا تفاعله مع تراث المنطقة وهو يتجاوب مع إيقاع الطمبور الحنين بالعرضة السعودية في تمازج ثقافي أصيل .
ما لمسناه البارحة في كريمة ، وشاهدناه قبلها من تلال قمح الراجحي ، يؤكد أن هذا البلد ( موعوداً ) بإذن الله ، بالمزيد من البشريات والوفير من النعم التي يستحقها هذا الشعب بعد صبرٍ وكد .
بقلم : محمد الطاهر العيسابي
motahir222@hotmail.com
