في كادوقلي
بعيداً عن الخرطوم الغارقة في شائعات اختطافاتها وألاعيب سياستها وزحامها وسخامها ولطامها، أنخنا ركابنا يوم الخميس الماضي، في جو غائم بارد بمدينة كادوقلي عاصمة جنوب كردفان، وَيَا له من جو ماطر بديع،
من مطار الأبيض امتطينا السيارة التي نهبت بِنَا الأرض نهباً نحو كادوقلي.. الأرض ازينت وانبتت من كل زوج بهيج، ارتدت ثوباً من سندس أخضر، والجبال الزاهيات من الدلنج حتى كادوقلي تغطت بالعشب وأحضرت اشجارها وتوارت خلفها أحجارها، كل شيء كان ينضح بالندى الأرض والعشب والأفئدة والنفوس.
> في كادوقلي ومحلياتها وأريافها كل شيء تحول وتبدل، من مظهر ولغة الحرب إلى نشيد السلام، الجميع يبحث عنه كمفقود عزيز حان إيابه، وفجر جديد يدلق شعاعاته الخضر على كل جنوب كردفان.
> كلما زرنا كادوقلي وجدنا فيها الجديد المستحدث الفريد، في صدر المدينة نشأت القرية التراثية التي تستقبل بها المدينة رئيس الجمهورية ومهرجان السلام للاستثمار والتجارة والسياحة نهاية هذا الشهر، من عند سفح جبل كادوقلي حتى قمته نشأت القرية التي تحمل كل ملامح التراثيات والشعبيات وتقاليد أهل جنوب كردفان.. القطاطي والكرانك الساحرة والدرج الصاعد إلى قمة الجبل بشرفات وأجنحة لا مثيل لها في المنتجعات السياحية في كثير من بلدان العالم، وفي المدينة منشآت جديدة من مشافٍ وبنوك ومرافق رسمية وحدائق غناء.
> كل ذياك البريق أضاف لكادوقلي فوق ما عندها من جمال، ولم يحجب نقاش السياسة وجدالها، الجميع المواطنين وواليهم الدكتور عيسى آدم أبكر وحكومته
> كلهم يتحدثون عن الفرص المواتية لتحقيق السلام بالولاية، فجدوى الحرب لم تعد تقنع أحداً حتى بعض المنتمين للجيش الشعبي والحركة الشعبية، إرادة السلام أقوى من أي وقت مضى، ربما ساعدت سياسة الوالي وحكومته بتغليب خطاب التسامح والتصالح والتصافح وتصافي الأنفس على خطاب الحرب في صناعة هذه الإرادة الجبارة التي تطبخ السلام على نار هادئة، وهناك في مغارات وقمم جبال النوبة حيث توجد قوات الحركة يدور الجدل نفسه إلى متى تستمر الحرب وماذا جني منها؟ ولم يكن الزلزال الذي ضرب أركان الحركة الشعبية وتصدعت على إثره ناشئاً من فراغ، فمحفزات السلام توالت وتواترت في الولاية، وهي شاخصة وواضحة مما تم إنجازه في مجال الخدمات ومشروعات التنمية الاستراتيجية، ولأول مرة تدخل في الولاية الشبكة القومية للكهرباء في الجزء الشمالي منها محلية القوز ومحلية الدلنج، وتنتشر المشروعات الخدمية في مجال الصحة وتوفير الماء النظيف، وترقية التعليم وتوفير الكوادر الفنية والإدارية والمتخصصة لإدارة العمل التنفيذي والخدمي، لكن الأهم من ذلك الرغبة في تغيير الواقع وجذب الانتباه والاستثمار لما تتمتع به جنوب كردفان من إمكانات مهولة وموارد ضخمة وثروات خاصة الذهب الذي تشير كل الإحصاءات إلى أن إنتاج البلاد تأتي نسبة كبيرة منه من مناطق التعدين التقليدي ومناجم الشركات العاملة في الولاية.
> أما كادوقلي الأخرى القابعة في مداراتها، فهي تنبض بالحياة، السوق توسع والأسواق الطرفية زادت واتخمت، وحركة التجارة والنقل والتسفار نشطة كمرجل يغلي، وفي السوق الكبير في دكان وشجرة حمدان علي البولاد وجدنا سُمَّار السياسة وندماءها يختصمون ويختلفون ويتغالطون في أدب ولطف، وشعراء المدينة وفنانيها وصحافييها ينشطون ويبدعون في انتظار ميقات سلام سيأتي لا محالة يوماً..
> وجدنا الفرق الشعبية الراقصة بكل أنواع وأنماط الفن الشعبي لقبائل جنوب كردفان، يفرحون كالأطفال ويمرحون في الساحات كغزلان برية أرجلها على الأرض وأعناقها للسماء.
> الشوارع ممتلئة بالذاهبين والراجعين والسابلة، المقاهي والمحلات التجارية تفتح حتى ساعات الليل المتأخرة، والكشافات التي تنير الشوارع وتعمل بالطاقة الشمسية تضيء في ليل المدينة البهيم، وحولها تتطاير حشرات الخريف من ذوات الأجنحة الخفيفة الخفيضة وخرير مياه الخيران يعلو، تمتلئ المقاهي وتمتلئ الطرقات كما تكتظ وتمتلئ قلوب أهل كادوقلي بالثقة المفرطة بأن السلام قادم إليهم على فرس أبيض يلوح بيديه الناصعتين.
> ولا توجد مقارنة بين أن تبقى في الخرطوم وأن تتكئ بين أجفان كادوقلي وقلبها، القلب المضنى بعذابات الخرطوم يرتاح، والجفن المسهد بفواجع العاصمة ينعس وينام، والأمل الذي قتلته آلام السياسة ينهض ويشعل التاريخ ناراً ويشتعل.
صحيفة الأنتباهة