مقالات متنوعة

كانت لنا أيام


كنت في الصف الثالث الابتدائي.. عندما قالت لي والدتي (رحمها الله).. وهي تفرق شعري الى أثنين.. تمهيداً لعمل الضفائر بالشريط الأبيض.. (بعدين إن شاء الله لما ترجعي من المدرسة.. أبوكي بكون جاب التلفزيون).. الفرحة التي تملكتني.. كان من الممكن أن تسع الجميع.. تلفزيون في بيتنا؟؟ كنا قد اعتدنا كل عصرية.. التجمع في بيت (فاطنة اليمانية) جارتنا.. التي أحضر لها إبنها (جمال) تلفزيون من بورتسودان.. كانت جارتنا (ترص) البنابر للصغار.. والكراسي للكبار.. والحلة كلها تتجمع حول الساحر الصغير لمتابعة مسلسل كان اسمه (التائه).. لا أذكر غير إسمه الآن.. لكن الدهشة كانت في ملاحقة اؤلئك البشر الذين يعيشون داخل هذا الصندوق.. وكم حاولنا النظر خلفه علنا نحظى برؤية أحدهم وهو خارج بعد انتهاء الحلقة.

عدت في ذلك اليوم بترقب كبير.. لدرجة أنني تخليت عن لعب (كمبلت) بعد المدرسة.. وفتحت الباب بقوة.. منادية أمي (التلفزيون جابوهو؟؟).. ابتسمت وهي تقول (لسه.. الناس بكونوا كتار.. عشان دي تلفزيونات النقابة).. نقابة السكة حديد التي كانت تسعى دائماً لراحة اعضائها.. هيييه دنيا.. .مضى الوقت بطيئاً.. وكان كل صوت لفتح الباب.. أجري لأكون أول المستقبلين.. لكن المغرب جاء.. ولم يأت أبي.. قاومت النوم.. و(دخلت ومرقت).. .وفي النهاية.. .لم أجد غير الاستسلام للنعاس والنوم.. لكني صحوت فجأة على صوت أمي وهي تحاول ايقاظ شقيقي (عزو.. قوم شوف التلفزيون ).. وابتسمت وهي تراني أقفز من السرير.. تعالي أحضري الأخبار.. فنظرت ورأيت صندوقاً أسود.. على رأسه قرون استشعار طويلة.. كان يفتح باللمس.. ولم يكن بالألوان.. أبيض وأسود ولكنه كان كافياً ليغمرني بفرح طفولي كبير.. كانت الراحلة سهام المغربي تقرأ نشرة الأخبار.. هل كانت هناك سعادة أكثر من ذلك؟؟ لا أظن..
منذ تلك اللحظة تم إعلان نشرة التاسعة علامة فارقة في بيتنا.. كان أبي يأتي من الحوش التاني.. ليحضر الأخبار و(يأخد التمام).. لازم كلنا نكون موجودين.. والغائب لابد من توكيل شخص لشرح الغياب.. والمحظوظ هو من تتولى (الحاجة) شرح أسباب غيابه.. ذلك يعني انه قد تبع السلم الإداري الصحيح في الاستئذان.. وتمام التاسعة كان هو التمام الثاني بعد تمام المسلسل اليومي.. لكنه كان الأكثر خطورة.. فغيابك عن حضور النشرة.. يعني أن هناك أمر جلل دعاك للمكوث خارج المنزل في هذا الوقت.. ولو كنت داخل المنزل فلا شيء يعفيك غير النوم.

عدت سنوات ومرت أيام وكمان ساعات.. ولا تزال للنشرة قدسيتها.. ولا زلت أرى أن حضور نشرة التاسعة (بالقديم) والعاشرة بالجديد.. هو الفيصل في اليوم.. ولم يخطر على بالي لحظة انه سيأتي يوم.. نحضر فيه نحن.. وتغيب فيه النشرة !!!!.. فتتساءل تلقائياً.. ما الذي حدث في الكون؟؟ من المسؤول عن تدهور الأوضاع الى هذا الحد؟؟ التلفزيون القومي.. واجهة البلاد.. والصوت الرسمي.. أليس المفترض أن يكون هو الأولى بالرعاية والاهتمام؟؟ ما هي الفكرة الأساسية في هدم المرافق الحكومية المملوكة للشعب؟؟.. ولماذا تحظى بعض المؤسسات الخاصة بالاهتمام الرسمي ويهمل القطاع الحكومي؟؟ هل من مفسر؟ هل من مانع لتوزيع الاهتمام بالتساوي؟؟ لماذا يصر البعض على محو ذكرياتنا وقتل كل جميل فينا وكانهم لم يشاركونا هذا الماضي؟؟

أثناء كتابة هذا المقال.. مر إبني الأوسط من أمامي.. سألته قائلة (الأخبار شنو؟).. رد قائلا (نيمار خلاص مشكلته اتحلت ومشى باريس سان جيرمان.. ونادي برشلونة استلم القروش وووو).. فهززت رأسي يأساً.. وعرفت أن الجيل الجديد قد نفض يديه من كل شيء.. ووجدتني أردد هامسة (كانت لنا أيام).

صباحكم خير – د ناهد قرناص
صحيفة الجريدة