رأي ومقالات

أبوعركي البخيت يجلس بجلبابه في عزاء فاطمة احمد ابراهيم ويغرس نظراته في الأرض، كان حزينا على طريقته


في حي العباسية بأم درمان كان المدخل الذي يؤدي إلى منزل فاطمة أحمد ابراهيم مغلق من المنتصف بالأشجار والشجون والملاحم الحمراء، كان يمكن لأي طفل أن يهبك الطريق، كان الحزن عميقا وحبيسا في الدواخل، لم يكن حزنا عاديا ينسكب عبر المدامع ويحاكي خريف هذا العام، كل الرفاق القدامى يستعيدون في هذه اللحظة تحديداً كل ما يمكن أن يُستعاد، فقد عركتهم السنين والسجون، وهم أنفسهم أفواج المعزيين الكبار، المنزل ينتصب شامخاً يرتدي لون الحداد،

المنزل الأم درماني العتيق، منزل الأسرة، لا أعرف هل هو نفسه الذي ولد فيه (صلاح أخو فاطمة)؟ لأن جدرانه من الخارج بدأت تتأكل، وهو بالضبط يشبه قصيدته نحن الردى ” فاستبدي يا فؤوس وادخلي أبياتنا واحتطبي” .. على منحى صغير كانت هنالك امرأة تجرجر ثوبها وتنتحب ” حليلك يا بت أمي” ولعل أعظم ما يمكن أن يمنحها الصبر الجميل كلمات محجوب شريف لفاطمة نفسها يوم الفجيعة ” الشفيع يا فاطمة في الحي.. في المصانع وفي البلد حي.. سكتيها القالت أحي”.

كان هنالك شحاد يقبع في ظل شجرة شديدة الاخضرار، نهض من مكانه وتبع سيارة فارهة لمسؤول خرطومي، تخيلت فاطمة انسلت من ذات الباب بثوبها الأبيض كلوزة القطن ومنحت عطفها للشحاد، كان هو كل ما يهمها في هذا الزحام، مثل ما أنها منحت عمرها للضعفاء والفقراء،

جلس أبوعركي البخيت بجلبابه الذي تعرفونه وغرس نظراته في الأرض، كان حزينا على طريقته، وكان بسيطاً بمعنى البساطة، جلس على كرسي بلاستيك وهو يتأمل الزمن والرحلة، يوسف حسين هنالك بقامته السمراء المديدة يعتذر عن حضور الخطيب، لقد أجريت له عملية عيون بالأمس، وأبيضت من الحزن، رمقت أروى الربيع وعائشة الكارب، وكمال الجزولي يعزي ضابط قديم يبدو أنه بعض مما تبقى من (19) يوليو، رأيت أيضاً معتمد أمدرمان مجدي عبد العزيز وخلفه رجال المرور والمراسم ليوحي بأن أهالي هذه المدينة تجمعهم الأحزان ولا تفرقهم السياسة،

قال ذلك بالفعل .. هى عمة محمد ضياء الدين وعمة كل السودانيين، قلت يا ترى لمن أرفع الفاتحة؟ وأدركت محنة الرفاق الذين ابتلعتهم المنافي، أو الدياسبورا بالمعنى الأسمر للشتات، شقيقها سوف يحضر مساء اليوم من أبوظبي، نصف أسرتها بالخارج، مرتضى رحل وصلاح رحل والأبن الطبيب والزوج من قبل، لكنها ستعود لتعانق تراب وطنها منتصف الأسبوع تقريباً، وتوسد رأسها فوق التراب المقدس.

بقلم
عزمي عبد الرازق