الجنرال أحمد طه
في هدوء غاب نجمه بلا ضجيج، انسحب تاركاً خلفه الحياة دون أن يترك حتى فرصة لأصدقائه وأحبابه لأن يغترفوا منه المزيد ويودّعوه بما يليق، ولم يكن الرجل القوي الفارع الطول ذو الصرامة العسكرية في حاجة ليصارع الموت طويلاً،
فهو مثل عمر المختار كما كنا نظن، إما أن يموت أو ينتصر لا يستسلم، لكن المنون قناتها كانت أطول وكفها أسرع من يد الجنرال فاختطفته سراعاً في نهار حزين يوم أمس، والحياة خلفه ملونة بريشة إبداعه وألوانه، والمدى مموسق الخطوات من ألحانه، ومسمع الوجود يشرب من قصيده ونثره ودنانه.
> في ظهر الجمعة أول أمس، زرناه في مشفاه بمستشفى فضيل الطبي، مع والي كسلا الأستاذ آدم جماع، وما كان الجنرال أحمد طه يرضى لنفسه أن نراه وقد هده المرض ووهن بدنه، ظل متماسكاً رغم الألم الممرض، وشامخاً كالطود الأشم لا يشتكي ولا يعرف قلبه الأنين، يظن نفسه مثل (توتيل) يعيش صلداً قوياً ثم يخرج من الدنيا ولن تترك فيه إلا نقشاً على حجره، لذا كان أشد مما رأيناه، كالبيرق الخفاق يأبى أن يترنح في ممشى الحياة أو يتكئ من الضعف.
> عندما نعاه الناعي، أمس بعد أربع وعشرين ساعة من آخر لقاء بيننا، تراءت أمامي من سجوف الماضي سيرته العابقة والعالقة في الذاكرة، وصرخة ميلاده الأولى في مدينة الأبيض وما أدراك ما الأبيض ساعتئذٍ في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وكانت المدينة التي أحبها ولم تزل ضاجة بالإبداع والفن، يضيء شعاعها فجوات تلك السنوات من تاريخ البلاد، خاصة أن الهزيع الأخير من عهد الاستعمار يطوي صحائفه، والحرب العالمية الثانية تخلف وراءها الكثير من المواجد والأحزان والأسئلة والتحولات والرياح التي هبت من كل اتجاه في عالمنا الفسيح.
> عشق الجنرال أحمد طه المدينة كأنه مغروس في قلب رمالها، ومكتوب له أن يكون نشيد إنشادها، وساعياً في بريدها الجمالي، و (صرماتياً) يصنع خفاً من ضياء يمشي به فوق تبرها وترابها الشهابي المرصع، لكن كسلا وكأنها توأم الروح للأبيض وهي مدينته وموطنه، سارت معه في درب الحياة وشعرها يلهث خلفها، نفحته عبيرها، وأنضجت روحه فوق أثافيها ونار فنونها الذهبية الألوان القصبية المزامير، فكان كما قال البروف العلامة عبد الله الطيب عن بدر شاكر السياب في حوار أجرته معه مجلة (الآداب) البيروتية في ستينيات القرن الماضي: (إن السياب يصفِّر بصفارة من قصب ..)، عشعش حب كسلا في قلب الجنرال، جمرته وطلت بلونها العسجد ثقافته الموسوعية وإبداعاته ملحناً وكاتباً وباحثاً ولغوياً ورساماً وناقداً.
> أما العسكرية فزادته قوةً وصرامةً وإيماناً بوطن وتراب، كان شامة بين زملاء دفعته التي تخرجت مع إطلالة عقد السبعينيات من القرن العشرين، عمل في مناطق شتى من البلاد، طاف الأرياف والأصقاع البعيدة، عرف مجتمعه بكل تنوعاته وتباينات عاداته وتقاليده وسحر شعبياته وروعة التراث والتاريخ والإيقاعات والموسيقى، فصار بحراً لا ساحل له.
> ولا تكتمل صورة أحمد طه محمد الحسن إلا بإدراك واستنكاه أبعاده الأخرى ومعرفة اهتماماته العميقة بالقرن الإفريقي وبلاد الحبشة، فهو لا يُبارى ولا يُجارى في هذا المضمار الطويل، ألم بثقافة إثيوبيا وأحباشها والقرن الإفريقي وساكنيه، فلم يؤتَ لأحد سعة معرفته بهذه البلدان وأهلها وألسنتهم وموسيقاهم وتراثهم كأنه عجن في طينتهم وأشرب حبهم وناغى أوتار حياتهم.
> وأذكر عندما دعانا الأخ المخرج الكبير سيف الدين حسن وهو في طور الإعداد لسلسلة (أرض السمر) للقاء تفاكري وكانت السلسلة مجرد فكرة، جلسنا في ورشة صغيرة بفندق القراند هوليداى فيلا، كان الجنرال فارس تلك الجلسة ونجمها الأزهر، فاض علمه كنهر فياض، تحدث عن السودانيويات في التراث الشعبي والمعالم التاريخية والحياة السودانية برونقها وبهائها، وأظن أن الأخ سيف الدين وجد مبتغاه يومئذٍ وأفاد مما أفاض الجنرال.
> شاهدته في الدورة المدرسية بالأبيض كالفتى الغر هنا وهناك في نشاط دائب، ثم بعدها حمل متاعه ويمم شطر كسلا ليهب ولايته كل تجربته وسكب عصارة خبرته، كان يحلم بدورة مدرسية مدهشة، وظل حتى ساعة مرضه المفاجئ يعمل وهو في ذرى حلمه يسمع حفيف الزهر في السواقي وصوت محمد عثمان كجراي وتوفيق صالح جِبْرِيل وغناء البجا وحداء الليالي المترعة … لكنه وَيَا للعجب أغمض عينيه فجأةً ونام نومته الأخيرة وغاب للأبد.
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة