تحقيقات وتقارير

العقوبات الأمريكية.. خارطة طريق دبلوماسية للقادم

رُفعت العقوبات الاقتصادية الأمريكية عن السودان بعد حصار استمر عشرين عاماً أبقت البلاد في عزلة تامة خلال العقدين الماضيين رغم محاولات الحكومة المُتلاحقة لترجيح المعادلة بوضع ثقلها الدبلوماسي في ميزان “الشرق” لكسر الطوق ومحاولة التحليق بجناح واحد في الفضاء الدولي، وأخيراً وليس آخراً بعد “ماراثون” طويل في مضمار العقوبات وعبور مياه كثيره تحت الجسر أفلحت الحكومة في طي صفحة قاسية من تاريخ البلاد بإنهاء الحصار الاقتصادي المضروب على السودان، وبدء مرحلة جديدة عنوانها “الانفتاح في السياسة الخارجية” وترميم العلاقات الدولية على أساس المصالح المشتركة والمنافع المُتبادلة، ولكن يبقى كل ذلك مرهوناً بتجاوز الاشتراطات الأمريكية التي ما زالت قائمة بتحقيق السلام في جميع انحاء البلاد وتحسين ملف حقوق الإنسان لضمان عدم إعادة البلاد إلى المربع الأول أو إبقائها في ذات الخانة “قائمة الدول الراعية للإرهاب”، والتي مازالت تحتاج إلى جهود إضافية لشطب السودان من القائمة السوداء.

انفتاح

بعد قرار رفع العقوبات الأمريكية، بدأ السودان مرحلة جديدة في علاقاته الخارجية ما يتطلب الاستعداد للتعامل مع المُعطيات الجديدة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية ووضع خطة إستراتيجية قصيرة وبعيدة المدى لمواكبة التحول الكبير في السياسية الخارجية، وهو ما شدد عليه مدير معهد الدراسات الدبلوماسية د. عبد الرحمن أبو خريس في حديثه لـ “الصيحة” ونوه إلى أن السودان طوال الفترة الماضية كان معزولاً اقتصادياً وسياسياً وترتب على ذلك تحجيم دوره عالمياً وفي محيطه الإقليمي، وقطع بأن رفع العقوبات يضع الكرة في ملعب الحكومة ويتيح فرصة سانحة للانفتاح العالمي والتأثير على مستوى السياسة الدولية والإقليمية.

ودعا أبو خريس لمُراجعة شاملة لمواكبة المرحلة الجديدة وأن تستوعب جميع المؤسسات المعنية والوزارية مرحلة ما بعد رفع العقوبات وتهيئة جميع القطاعات ليس فقط في الجانب الاقتصادي، وأشار إلى أن أي وزارة ومؤسسة لها بعدها الخارجي وعليها أن تعي دورها خلال الفترة المُقبلة، والاستفادة من الفرصة المتاحة من القروض والمنح واستعادة مكانة السودان في المنظمات والمؤسسات الدولية.

تحديات صعبة

رفع العقوبات وضع البلاد في مواجهة تحديات ليست سهلة ما يفتح الكثير من التساؤلات على مصراعيها هل الحكومة جاهزة للتعامل مع المرحلة الجديدة من حيث ترتيب البيت الداخلي وتهيئة البيئة والترقي في سلم التحسن وتجاوز الاشتراطات القائمة بتحقيق السلام والتعامل مع ملف حقوق الإنسان.

ويرى مدير الإدارة الأمريكية الأسبق بوزارة الخارجية السفير د. الرشيد أبو شامة، أن الحكومة عليها المُضي في طريق إكمال السلام أولاً في سبيل تطبيع علاقاتها بصورة كاملة مع الولايات المُتحدة، ونوه إلى مهددات قال إن وزراة الخارجية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني ينبغي التعامل معها بجدية خاصة ما يتعلق بحقوق الإنسان، وتوقع أبو شامة في حديثه لـ “الصيحة” نشاط الجهات والمنظمات المعادية للسودان بجانب الحركات المُسلحة لتصيد الأخطاء وتحريك الشائعات في ملف حقوق الإنسان في جانب الاعتقالات السياسية وإغلاق ومصادرة الصحف.

ودعا أبو شامة إلى تفعيل كافة المؤسسات للاستفادة من رفع الحظر خاصة في الجانب الاقتصادي، وتحريك القطاعات المتوقفة والمتأثرة من العقوبات مثل السكة حديد وخطوط الطيران والاتصالات والتكتلوجيا والمجالات الطبية والعلوم ومواكبة التطور الكبير في العالم بعد الخروج من العزلة التي استمرت لعشرين عاماً.

مطلوبات عديدة

مطلوبات عديدة على الحكومة الإيفاء بها للتعامل مع رفع العقوبات والمرحلة التي تليها وهو ما اختصره د. أبو خريس في ضرورة استيعاب التحول المُنتظر في شتى المجالات، بحيث تكون المؤسسات الرسمية والخاصة قادرة على الاستفادة القصوى من رفع الحظر بالاعتماد على موظفين مؤهلين للتعاطي مع التحولات خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة مؤسسات، وأضاف: “حالياً لدينا مشكلة في الخدمة المدنية في اختيار الموظف المُناسب في المكان المناسب”، وشدد على أن الفترة الراهنة مهمة واختبار حقيقي لترتيب البيت الداخلي مع تجويد العمل دون محاباة وبمنتهى الشفافية.

وفي ذات السياق يرى السفير نجيب الخير أن السياسة الخارجية لابد أن تحدث فيها نقلة جديدة تتسق مع الالتزامات التي تعهدت بها الحكومة في جانب حوارها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقال لـ “الصيحة” إن “العلاقات الخارجية لابد أن تقوم على مسألة المبدئية والكفاءة”، لافتاً إلى أن أمريكا دولة مؤسسات، والأمر يتطلب مؤسسية في إدارة المرحلة المُقبلة.

وقال الخير إن رفع العقوبات لا يعني أن تمطر السماء “دولارات”، أو أن تقوم الولايات المُتحدة الأمريكية بإنعاش الخزينة السودانية بدون مقابل، وشدد على أن البلاد لن نستفيد من رفع العقوبات إلا بالتوجه نحو الإنتاج، ومحاصرة كل أبواب الفساد بجدية وحسم، وتسريع الإجراءات للانضمام لمنظمة التجارة العالمية وكل الصناديق الدولية المانحة التي كان السودان محروم من خدماتها، فضلاً عن الوصول للبنك الدولي وأخذ منح وقروض للإنعاش العاجل للاقتصاد، وخفض نسبة التضخم، بعدها السعي بصورة جادة لجلب الاستثمارات الأمريكية أولاً في إنتاج النفط وشركات التعدين، مدخلات الزراعة والاستفادة من التطور التقني الأمريكي في الزراعة بالآليات.

وذهب السفير نجيب الخير إلى أبعد من ذلك بدعوته لدراسة إقامة قاعدة أمريكية متوسطة القوات في البلاد والاستفادة من المقابل الذي تدفعه الولايات المُتحدة للدول التي توجد فيها مثل هذه القواعد، وأضاف: “ثبت أن أمريكا لا تخسر دولاً لديها فيها قواعد أبداً”.

استعداد للقادم

رفعت الولايات المتحدة الأمريكية الحظر الاقتصادي عن البلاد، ولكنها أبقت السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولم تكتف بذلك بل رهنت أي تطبيع آخر للعلاقات باستمرار تقدم الخرطوم، وحذرت من أنها مُستعدة لاستخدام أدوات إضافية للضغط حال تراجع السودان عن التقدم المُحرز في المجالات الخمسة، وهو ما يضع الحكومة أمام اختبار كبير للتعاطي مع ما يطرأ من مشكلات متوقعة يجب مُعالجتها بحكمة، وهو ما يُحتم على وزارة الخارجية تحديداً لعب دور فاعل بحسب مدير الإدارة الأمريكية الأسبق بالوزارة السفير د. الرشيد أبوشامة، ودعاها للاهتمام بالجانب الإعلامي وتكوين وحدة للتعاطي مع المشاكل والإشاعات المتوقع إثارتها من قبل الجهات المُعادية والتعامل معها والرد عليها بسرعة ومد السفارات بالمعلومات، وشدد على ضرورة تقوية الإعلام الخارجي والاتصالات الدبلوماسية.

الخرطوم: محمد جادين
صحيفة الصيحة