الصادق الرزيقي

الإعمار بالزراعة


تثور وتدور نقاشات جادة ومخلصة على عدة صُعد، سياسية واقتصادية وعلمية، حول مستقبل السودان الاقتصادي وازدهاره التنموي عقب رفع العقوبات الأمريكية التي فرضت قبل عشرين عاماً، وبشائر الخروج من العزلة الدولية التي حرمت بلادنا من القروض والمنح والمساعدات والتمويل والاستثمارات الأجنبية الضخمة،

وكان كل ذلك بسبب الموقف الأمريكي الغربي طيلة السنوات الماضية، والكل يتفق في أي نقاش يجري، على أن ما نريده من الاستثمارات الأجنبية التي ستأتي إلينا منهمرة عقب رفع العقوبات، ليس الاستثمارات المصوبة إلى قطاع الخدمات الاستهلاكية مثل المطاعم ومجالات الترفهية وغيرها، التي هي من سمات المجتمعات غير المنتجة التي تغرق في اتون الاستهلاك، وليس هناك من يرغب في رؤية مطاعم ماكدوناندز وكنتاكي ومحلات الموضة الراقية والأسواق الضخمة التي تعبر عن حالة استهلاكية مهلكة إذا دخلت في السودان.

> بلادنا في حاجة إلى استثمارات حقيقية تتلاءم مع مواردنا الطبيعية وتسهم في تطوير قدراتنا الاقتصادية وتتوافق مع مشروعاتنا في النهضة والإعمار، فالشعب السوداني موزع في نسبة كبيرة من السكان على قطاعين رئيسين هما القطاعان الزراعي والرعوي، ولا سبيل لاستكمال نهضتنا وبلوغ غاياتنا، إلا بجعل الاستثمار في هذين القطاعين القاطرة والرافعة التي تنهض بالاقتصاد الوطني وتقودنا نحو التحديث والبناء وتقوية ركائز الاقتصاد وحفز نشاطه الى حده الأقصى.

> إذا أخذنا أهم القطاعين الرئيسين في النشاط الاقتصادي وهو الزراعة، فإن سبيل التنمية الزراعية المتكاملة التي تقود وتنتج عنها ترقية معدلات الصادر وتنويع وتحديث التصنيع، هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقودنا إلى بر الأمان والخروج من النفق المظلم وارتياد آفاق الإعمار والنهضة الشاملة، فالقطاع الزراعي الحديث غير التقليدي النمطي الذي ظل سمة من سمات اقتصادنا، هو المطلوب حالياً حتى نصل إلى الهدف المنشود، فالزراعة غير التقليدية والابتكار الجديد وأساليب التحديث الجديدة، هي المفتاح لحل الكثير من معضلاتنا ومشكلاتنا الراهنة، باعتبار أن الإنتاج الزراعي الجيد وزيادة الإنتاجية وتوفر مصادر المياه والتقنية المتطورة مع متلازمات أخرى تتمحور في الخبرة والأيدي العاملة والتخطيط السليم، ستكون بمثابة نقطة ومنصة انطلاق إلى فضاء فسيح يصل فيه السودان إلى مراتب التطور والنمو والازدهار ويلحق بالركب الذي تقدم ومضى.

> توجد لدى السودان فرص كبيرة جداً وسوانح لا تحصى في جذب الاستثمارات إلى قطاعه الزراعي الذي سيوفر فرص عمل جديدة وتتحرك معه مهن وحرف ومجالات أخرى كالصناعة وتنمية الصادرات والنقل، بالإضافة إلى ما سيوفره النشاط العلمي والفني من جهود وإسهامات تضع بها البلاد أرجلها على المسار الصحيح.

> إذا نظرنا إلى الصورة كاملة والمشهد الذي أمامنا، سنخرج من بعض الإحباطات، فطيلة السنوات الماضية كانت الإرادة السياسية للدولة قوية ومتماسكة وفاعلة، وسعت الدولة إلى توثيق وتمتين عرى التعاون مع بيوتات ومؤسسات التمويل الخارجية، خاصة العربية منها والإسلامية والقارية مثل بنك التنمية الإفريقي، وسعت إلى إتاحة المجال للمؤسسات الرائدة التي يعول عليها في البناء والنهضة والتنمية الزراعية، فمثلاً في مجال توفير سعات تخزينية أكبر لتوفير المياه والري، كانت وحدة تنفيذ السدود مثلاً التي نفذت أكثر من ثلاثة مشروعات تخزين مائية ضخمة مثل سد مروي وسدي أعالي عطبرة وسيتيت وتعلية خزان الروصيرص، وتبع هذه المشروعات المائية الضخمة عمل في حقل الدراسات الفنية والاقتصادية والبيئية للمشروعات الزراعية للاستفادة من الموارد المائية المتوفرة، وتم إعداد دراسات هندسية وتصميمات ومخططات لمشروعات زراعية متكاملة تصل مساحتها لمئات الآلاف من الأفدنة في بعض المناطق على النيل الأزرق، ومليون فدان زراعي في منطقة أعالي نهر عطبرة وسيتيت، وتم توفير الدراسات ووثائق العطاءات وطرح بعضها للتنفيذ وحتى اختيار المقاولين.

> ففي منطقة الروصيرص عند الجزء الجنوبي الشرقي على ضفاف النيل الأزرق الشرقية في هذه المنطقة شديدة الخصوبة التي لا مثيل لها في أية مناطق أخرى في المنطقة برمتها وليس السودان وحده، تمت دراسة وإعداد مساحة تقدر بـ (740) ألف فدان لزراعة المحاصيل النقدية والبستانية والخضر من الري الانسيابي الذي يوفره خزان الروصيرص، وتوجد منذ إنشاء الخزان وافتتاحه عام 1966م قنوات ري محددة في شرق النيل الأزرق في المنطقة المعنية بالمشروع.

أما في أعالي عطبرة وسيتيت فهناك مليون فدان هي المساحة الكلية للمشروع الذي سيكون مروياً من بحيرة السدين انسيابياً حوالى النصف (500) ألف فدان، وقد أعلن عند افتتاح سدي أعالي نهر عطبرة وسيتيت، أن مليون فدان خصصت للاستثمارات الزراعية السعودية وتم إعداد الوثائق.
إذا كان هذا غيض من فيض في مشروعين يساويان ضعف المساحة التي تزرع في مشروع الجزيرة وتزيد، فإن التنمية الزراعية المتوقعة إذا ما تدفقت استثمارات في هذا القطاع الحيوي الكبير ستحقق شعار (السودان سلة غذاء العالم). ومع حاجة العالم اليوم للغذاء، فإن إعمار السودان سيبدأ من هنا، وستكون هذه الانطلاقة هي انطلاقتنا الكبرى نحو التطلعات والآمال الكبار… هذه دعوة للنقاش لعلنا نستطيع رؤية الطريق الذي يقودنا إلى النهضة الشاملة.

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة