ملحمة أخرى في كسلا
تعرف حسن طوية السودانيين في كل نجع وصقع وطرف من أطراف بلادنا، في الُملمات ومواطن الاختبار الصغرى والكبرى عندما يتصدون بمسؤولية عظيمة ويتسابقون لفعل الخيرات ويتنافسون عليها،
ومن الإشراقات التي ظلت كل عام تثبت تفرد وتميز هذا الشعب الدورات المدرسية وتدافع أهل الولايات ومواطنيها قبل الحكومات إلى إكمال التحضيرات والتبرع والاستعداد لإكرام ضيوفهم وحسن وفادتهم وتهيئة البيئة المناسبة لاستقبالهم، وقد حمل مواطنو الولايات على الأقل في تجربتي شمال كردفان والأبيض السابقتين، عن كاهل الحكومة عبء الضيافة والإسكان واحتضان القادمين اليهم من طلاب المدارس الثانوية من كل ولايات السودان الأخرى ووضعهم في القلوب وفي حدقات العيون ورعايتهم في حب وتوادد غريب لا يحدث في أي مكان في العالم، وبذا يسطر أهل السودان جميعاً ملاحم نادرة ويقدمون صوراً في التراحم والتكافل والتعاضد كنا نظنها قد غابت مع غياب أزمنة مضت وتوارت مع تعاقب السنون والأيام وطغيان ثقافة عصرية حديثة لا تلوي على شيء من تلك الخلال والقيم والمثل الحضرية المدنية الزاحفة بأرجلها وبطونها على حياتنا الراهنة.
> في ولاية كسلا .. التي تستقبل بعد أيام الدورة المدرسية، يحدث العجب الآن..! لم يكن أحد يتصور أن حجم المبادرات الشعبية وعلو كعب الولاية على سواها سيكون بهذا الحجم ويفوق التصور بكثير، تحرك المجتمع كله في تدافع غير مسبوق وغير مشهود من قبل، عبر الإدارات الأهلية والهيئات الشعبية والمنظمات ولجان الأحياء والقرى والأرياف البعيدة، الغني والفقير، المعدم والثري، كلُ بما يستطيع، يقدمون كل ما يملكون للوالي وحكومة الولاية، لتكون أموالهم وبيوتهم وما قدروا عليه تحت تصرف اللجنة العليا للدورة المدرسية السابعة والعشرين، لم يكتف الناس بتهيئة المدارس والمنازل لتكون نزلاً للطلاب وضيوف الولاية والقادمين اليها، بل اقتطعوا من قوتهم وإنتاجهم وما يحوذون من نعم وأنعام وغلال وفواكه وذرة وحصيلة دعمهم المعنوي وما يحملونه من أفكار وما لديهم من سواعد وآراء، كلها اليوم مسخرة باسم سكان الولاية لهذا الحدث الكبير.
> تسابق زعماء القبائل جميعاً والإدارات الأهلية إلى التبرع بأعداد وفيرة من الخراف والأبقار والإبل كما فعل أهل شمال كردفان والنيل الأبيض، وقدم بعضهم الدعم المالي المباشر، وأعلن البعض منهم تبرعات أخرى تعضد روح التعاون والمسؤولية الوطنية، فلو سرت هذه الروح في جسد الوطن في كل القضايا والهموم لما تبقت أمام السودانيين عوائق وصعوبات في تفجير الطاقات وتعمير ما أصابنا من خراب، ووضع البلاد على مسار النهضة والبناء، يحكى في كسلا هذا الأنموذج الباذخ في العطاء والإقبال المتدافع على توفير كل الاحتياجات للدورة المدرسية، فقد تقدم زعماء القبائل ورموزها وكبارها وكانوا طلائع هذا البذل والسخاء، امتلأت حظائر الولاية بالأنعام، وتمت تهيئة كل مرفق ومسكن للقادمين من أضياف، حالة غير مسبوقة تعم المدينة ومدائنها وقراها الأخرى، فهذا هو المجتمع الذي نريد أن يكون متقدماً على الدولة في كل شيء وليس منتظراً لها لتحركه أو تقوده، فإذا قاد المجتمع الدولة وسبقها بمبادراته وتخطاها في طريقه نحو غاياته، فسيتحقق الكثير من التطلع وسنبلغ الذرى الشم بأرجلنا الشماء وجباهنا العالية.
> ما تشهده ولاية كسلا هذه الأيام جدير بالاهتمام والمتابعة لأنه عنوان أمتنا وشعبنا الكريم الأبي، وعلى الحكومة أن تعمل بجد على أن تظل هذه الروح باقية وسارية في جسد الوطن الكبير، فلا شيء يعدل الوطن، ولا صعاب تقف في طريقه إذا تضامن أهله واتفقوا وكانوا يداً واحدة وعصبة لا تنفصم عراها، ولكم تعلم طلاب الدورة المدرسية في الدورات السابقة وسيتعلمون هذه المرة في كسلا قيم أهلهم وآبائهم وأجدادهم التي تربوا عليها ونهضوا بها، فلتكن الدورات المدرسية كل عام ترسيخاً لهذه القيم وبعثاً لها وتجديداً للروح الناهضة.
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة